جسّد اتفاق العاشر من آذار في حينه بين الحكومة السورية ممثلة بالرئيس أحمد الشرع وقوات سوريا الديمقراطية ممثلة بمظلوم عبدي، إرهاصاتٍ لبوادر أمل في نفوس كثير من السوريين، ربما أوحى إليهم بأن مشكلةً من أشدّ المشكلات تعقيدًا يمكن أن تذلّلها تفاهمات سورية – سورية عبر مسار تفاوضي، بعيدًا عن الحرب والعنف.
وبموجب الاتفاق المشار إليه، فقد حدّد الطرفان المتعاقدان إطارًا زمنيًا لتطبيق ما اتفقا عليه يمتد إلى نهاية العام الجاري. إلا أنه وبعد مرور ستة أشهر لم يُترجم من الاتفاق أيّ جزء على أرض الواقع، بل يمكن القول إن ما نشهده من تصعيد إعلامي من الجانبين، وكذلك من رفعٍ لسقف مطالب "قسد"، يؤكّد أن اتفاق آذار ما عاد صالحًا لأن يكون نواةً يمكن البناء عليها في ظل المواقف الراهنة.
إن مطالبة تلك الجماعات الدينية بكيانات مستقلة ورفضها الانضواء تحت مظلة الدولة السورية لم يعد مجرّد استنتاج أو تأويل، بل مواقف معلنة عبّر عنها أصحابها بوضوح.
ازدواجية الخطاب والمواقف
لم يتردّد قادة "قسد" منذ آذار الماضي في إطلاق تصريحات متواترة تؤكّد استعدادهم للاندماج في الدولة السورية، ونفي أي رغبة بالانفصال خارج كيان الدولة. إلّا أن تلك المواقف لم تتجاوز حيّز الخطاب، من دون أن يكون لها ترجمة فعلية على أرض الواقع. بل يمكن التأكيد على أن السلوك الفعلي الموازي لتلك التصريحات كان يوحي بالمزيد من التلكؤ والتردّد، وخاصة فيما يتعلق بتعطيل وعَرْقلة عمل اللجان التخصصية المنبثقة عن تفاهمات العاشر من آذار.
الأمر بات واضحًا لكثيرين بأن هذا التردد أو الامتناع عن الشروع في تجسيد التوافقات الثنائية على الأرض ليس إلا تكريسًا لنهج المماطلة، بغية كسب المزيد من الوقت للالتفاف على الاتفاق، وذلك استنادًا إلى معطيات أو أحداث مستجدّة. فما هي هذه المستجدّات؟
لقد أظهر لقاء الحسكة الذي نظمته "قسد" تحت عنوان وحدة الموقف لمكونات شمال شرقي سوريا في الأسبوع الأول من شهر آب الماضي، منعطفًا جديدًا في تعاطيها مع الحكومة السورية. إذ يؤكّد هذا التعاطي أن مواقف "قسد" من مسألة الاندماج في الدولة لا تنبثق عن قناعات ثابتة بقدر ما تخضع لموازين القوى والمواقف الإقليمية والدولية، وكذلك لمدى قوّة وتماسك الحكومة المركزية.
دعوة "قسد" لكل من حكمت الهجري، زعيم ديني ممثل للطائفة الدرزية، وغزال غزال ممثلًا عن الطائفة العلوية، جاءت على أعقاب الأحداث الدامية التي شهدتها السويداء منذ الثالث عشر من تموز الماضي. وهذا يجسّد مسعى آخر نحو تأسيس جبهة قوامها "أقليات مناهضة للحكومة السورية ومناهضة أيضًا لمبدأ وحدة البلاد وسيادتها".
إذ إن مطالبة تلك الجماعات الدينية بكيانات مستقلة ورفضها الانضواء تحت مظلة الدولة السورية لم يعد مجرّد استنتاج أو تأويل، بل مواقف معلنة عبّر عنها أصحابها بوضوح. فقد لم يخفِ غزال غزال تمسّكه باللامركزية السياسية أو الفدرالية، ما يعني المطالبة الصريحة بكيان علوي في الساحل السوري. ولم يكن حكمت الهجري أقل وضوحًا، إذ أكّد في بيانه الصادر في الرابع من أيلول الجاري تمسّكه بمطلب إنشاء كيان مستقل في الجنوب، تطبيقًا لمبدأ حق تقرير المصير الذي وصفه بـ "الحق المقدس الذي تكفله المواثيق الدولية، ولن نتراجع عنه مهما كانت التضحيات".
ومن اللافت أن بيان الهجري تضمّن استخدامه لمصطلح "شعب" في وصف الطائفة الدرزية، وهي سابقة تحتاج إلى تفسير: هل الدروز طائفة دينية أم شعب؟ أليسوا جزءًا من الشعب السوري؟ يبدو أن قناعته هذه هي ما دفعته للمطالبة بحق تقرير المصير "للشعوب" باعتباره حقًا مقدسًا.
ما لا تنتبه إليه "قسد" أن مطالب رجال الدين، سواء الفدرالية كما عند غزال غزال أو الاستقلال كما عند الهجري، ليست بالضرورة تعبيرًا عن تطلعات الطائفة بكاملها، بل هي مواقف شخصيات دينية.
طموحات "قسد" وحدودها
إذا كانت الجماعات الدينية أو الطوائف تسعى للتحوّل إلى كيانات سياسية مستقلة، فما الذي يجعل "قسد" أقل طموحًا من تلك الجماعات؟ ولعل هذا ما يفسّر العديد من تصريحات قادتها في الآونة الأخيرة، التي تؤكّد جميعها على مطلب "اللامركزية السياسية".
هذا المطلب يضمن لها من وجهة نظرها مسألتين أساسيتين:
الحفاظ على هيكليتها العسكرية والإدارية، بما يجعل تبعيتها لوزارة الدفاع أمرًا شكليًا فقط.
الحفاظ على تموضعها الجغرافي الذي يُبقي على مكاسبها وامتيازاتها.
وفقًا لذلك، يمكن التساؤل: ما قيمة اندماجها في الدولة السورية إن بقيت مستقلة عسكريًا وجغرافيًا واقتصاديًا؟ وما المسافة الفاصلة بين "اللامركزية السياسية" والانفصال التام؟
مزيد من المغامرة… قليل من الواقعية
إصرار قادة "قسد" على مطلب اللامركزية كشرط للتوافق مع الحكومة السورية لا يستند إلى مقوّمات ذاتية، بقدر ما يقوم على رهانات، أبرزها:
المراهنة على استمرار الدعم الأميركي والفرنسي، وهو رهان غير مضمون في ظل الموقف التركي الرافض لوجود كيان كردي متاخم لحدوده، وفي ضوء تحوّل المصالح الأميركية نحو إستراتيجية جديدة بعد هزيمة إيران وأذرعها الطائفية، وانحسار النفوذ الروسي في سوريا.
المراهنة على تحالف أقليات دينية من شأنه إعاقة تكوّن الدولة واستقرارها.
لكن ما لا تنتبه إليه "قسد" أن مطالب رجال الدين، سواء الفدرالية كما عند غزال غزال أو الاستقلال كما عند الهجري، ليست بالضرورة تعبيرًا عن تطلعات الطائفة بكاملها، بل هي مواقف شخصيات دينية. كما أن غياب أصوات مغايرة في الحالة الدرزية الحالية مرهون بظروف استثنائية من احتقان وتوتر، وهو غياب مؤقت.
في مقابل التفكير بمنطق المراهنات، ألا يمكن لـ "قسد" اتخاذ مواقف أكثر واقعية ومسؤولية؟
الرئيس السوري أحمد الشرع أكّد في لقائه وفدًا عربيًا ضم شخصيات إعلامية بارزة أن المفاوضات مع "قسد" أو مع السويداء لا تستثني أي موضوع سوى مسألة الانفصال. ووفقًا لذلك، يمكن لـ "قسد" أن تطرح على طاولة التفاوض ما تراه حقًا لها بلا تحفظ، بما في ذلك ملاحظاتها على الإعلان الدستوري، وموضوع اللغة الكردية، وحق مؤسساتها في الاحتفاظ بكوادرها، وغيرها.
يبقى الخوف حاضرًا لدى السوريين من أن تستمر "قسد" في المراهنات الواهمة، وهو ما قد يؤدي إلى انحسار فرص التفاوض والحل السياسي السلمي، ويفتح الباب مجددًا لفصل آخر من العنف، وهو ما لا يتمناه السوريون.
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه