Syria News
جاري تحميل الأخبار العاجلة...

في أربعين زياد الرحباني.. بعيداً عن المراثي ونبش القبور (2 من 2)

الجمعة، 12 سبتمبر 2025
في أربعين زياد الرحباني.. بعيداً عن المراثي ونبش القبور (2 من 2)

(تناولنا في الجزء الأول موسيقى زياد الرحباني ثم نصوصه الغنائية والمسرحية)

ثالثاً- المسرح: وضوح لا يقبل التأويل

جاء زياد إلى المسرح محملاً بإرث ثقيل من تفرّد الرحابنة في الشرق، وهو إرث ذو بصمة خالدة موسيقيّاً، وعلى مستوى معقول جداً من حيث الحكاية والمواضيع، مع لمحات عبقرية في الذهاب إلى البعيد في التفاصيل الإنسانية وتقديمها شعراً ولحناً بأغنيات ساحرة احتضنت الملوك والباعة الجوالين وعاملات المنازل وحتى المهرّبين.. تماهى زياد مع إرثه في عمله الأول "سهرية"، ليعلن تمرده في ثاني أعماله "نزل السرور" على مستوى الحكاية والشخوص قبل كل شيء: ثوار نزل السرور بلا حلم ولا فكر.. وأهل نزل السرور بلا طموح ولا رغبة في التغيير. والنهاية فرار الثائر مع صاحبة النزل متخلّين عن الثورة، في صورة معاكسة لكل الملحميات التي صبغت مسرح الرحابنة في "جبال الصوان" و"هالة والملك" و"ناطورة المفاتيح" وغيرها.

ولعل أهم تمرد كان زياد بحاجته في خروجه من عباءة الأخوين رحباني، ولم يفعله: هو المسرح بحد ذاته. إخراجاً ومشهديّة وأداءً. إذ لم يكن النص العبقري اللماح، ولا الموسيقى الساحرة، كافيين لتقديم مسرح متكامل في تجربة الأخوين رحباني. وتركت "عنجهية" عاصي على وجه الخصوص وتمسكه بفعل كل شيء على طريقته، أثراً غير طيب حين انتقلت لزياد في مسرحه.

هذا على مستوى الشكل، أما على مستوى المضمون فهو نقاش سيأتي لاحقاً، وإن كان من الأمانة أن أذكر أني ذهلتُ أثناء تحضير هذه المادة لرفض عدد من الأكاديميين المسرحيين الذين صرحوا بإعجابهم بزياد: الحديثَ عن مسرح زياد. ولهذا – برأي- تفسير يستطيع القارئ التماسه حين الحديث عن رسائل مسرح زياد، وكذلك في الحوار الذي حدثنا فيه الممثل المسرحي "نوار بلبل" عن تجربة زياد المسرحية.

عمل زياد على نمط الـ "وان مان شو" بالمعنى المعرفي والتلقيني، لا بالمعنى الاستعراضي، فكتب ولحّن وأخرج أعماله المسرحية، كما فعل أبوه، ولم تستقطب تلك الأعمال نجوماً ولم تفرز نجوماً إلا زياد الرحباني.

كيف ترى هذه الصيغة من العمل كمسرحيّ؟ ما دلالات هذه "المركزيّة" المسرحيّة إن صح التعبير؟

تبنى زياد هذا النوع واعتمده كأساس لمسرحه، فأنتج مسرحاً يمزج ما بين الـ "كباريه السياسي" الذي كان رائجاً في فرنسا في الستينيّات، والـ "ستاند آب كوميدي"، مضيفاً إليه شيئاُ من الحركة بخلق شخصيات تدعم روايته وتغذيها، فكانت النتيجة مجموعة شخصيات "ستاند آب كوميدي" تقدم عرضاً جماعيّاً يستخدم المونولوج الذاتي، أو الحوار، ليدور كله في النهاية حول: "زياد"، حتى اختفت الشخصيات المسرحية من الذاكرة وبقي "زياد" مركز العمل والحدث والسردية والمقولة.

لذلك لم يفرز مسرح زياد نجوماً، في حين نجد تجارباً مقاربةً لهذا النمط، مزيج الكباريه السياسي مع الستاند آب كوميدي الجماعي، كتجارب دريد لحام، أو همام حوت، قد أفرزت نجوماً أو شخصيات تركت علامة فارقة على الأقل.

في مسرح زياد تعيش مع "زياد الرحباني"، لا مع شخصية متكاملة الأبعاد على الخشبة، وترى حوله، إن استطعت أن ترى أساساً، "زيادات صغيرة" إن صح التعبير، شخصياتٌ تكاد لا تُرى لفرط تضاؤلها أو تماهيها مع "سوليست" العرض: "زياد الرحباني".

من اللافت في أعمال زياد الرحباني أنها لم تقدّم شخصية إيجابية واحدة، الشخصيات كلها إما: مأزومة، أو مهزومة، أو جشعة شريرة، أو ساذجة لدرجة البلاهة، أو سلبية للغاية وبلا موقف..

كيف يعكس هذا رؤية زياد لمجتمعه؟

ربما يكون هذا من أبرز نتائج "مركزية زياد" كما أسميتَهَا في سؤالك السابق، فالرؤية العدمية، وهي نمط فني ليس جديداً، ستنتج بالضرورة شخصيات غارقة في العدم والهزيمة والأزمة.

ولا يمكن إغفال مدى تأثير الحرب الأهلية وهي البيئة التي أنتجت فعلياً مسرح زياد الرحباني، هذه بيئة، وهي بيئة تدفع نحو العدمية بلا هوادة، تركت أثراً كبيراً في تكوين زياد الشخصي، خاصة أنه لم يغادر لبنان خلال الحرب، وزياد "السوليست" المتفرّد الكاتب والمخرج والممثل الأول: أنتج هذه الأعمال... الاستدلال وفهم النتيجة ليس صعباً ضمن هذه المعادلة.

وثمة عامل آخر لا يمكن تجاهله في تفسير علاقة زياد الرحباني بشخصيات مسرحياته، ومجتمعها بطبيعة الحال:

هذه العلاقة العدائية طريق ممهدة للتفرّد، الجلوس في مكان يبدو مرتفعاً عن الجميع والقول ببساطة: الجميع مأزومون.. وأنا الوحيد الذي يرى أزماتهم، وأنا الوحيد الذي يعرف أن لا مخرج لهم منها.

وهكذا تكبر الـ أنا حتى تغطي الجميع.

هذه الحالة ليست "زياديّة" أصيلةً إن أردنا البحث في الفنّ العالمي سنجد تقاطعات تصل إلى حدّ التطابق في عدة نواحٍ سواء كشخصية وروح المنتج الفني، خاصةً في العبثية والسوداوية والنظرة التهكمية الفوقية إلى المجتمع ككل، مع فنان فرنسي شهير هو سيرج غينسبور (1928 – 1991 م). وهو كاتب أغانٍ وموسيقي وممثل ومخرج عُرف بذات النظرة اللامبالية الفوقية تِجاه المجتمع االفرنسيِ: في نتاجه ومواقفه.

فيما "تسرّب" من أعمال زياد المسرحية، كيف ترى المشهديّة على الخشبة؟ وكيف يمكن أن تقارنه بالنص المكتوب/ المسموع؟

محور العمل المسرحي عند زياد: هو زياد، وكان الكاسيت المسموع هو وسيلة انتشاره، نسمع زياد في دور شخصية غارقة في أزماتها أو تناقضاتها أو هزيمتها، وحوله مجموعة من "الزيادات" الصغيرة التي تكمل وتعزز رواية النجم.

لذلك لم يلتفت مخرج العمل، وهو زياد، إلى بناء مشهدية أو سينوغرافيا، لم تعنه الإضاءة أو الموسيقا التصويرية المرافقة للدراما، وهو الموسيقي قبل كل شيء.

الغاية من مسرح زياد أن يسمع الناس مقولات زياد، وهذا ما نجح زياد في فعله، بل وحتى تحويله إلى أسطورة جماهيريّة. نقلت حالة "الكباريه السياسي" التي كانت شائعة في فرنسا منذ بداية الستينيّات إلى لبنان، وامتدت تجربته إلى اليوم في لبنان حيث تشيع فكرة مزج "الستاند آب كوميدي" مع "الكباريه السياسي" في المطاعم على سبيل الترفيه المرافق لعشاء سهرة نهاية الأسبوع.

ولا شكّ أن زياد بلغته المسرحية وخارج المسرح، استطاع تقمص حالة تمثّل رغبة الشباب بالتمرد وكسر القيود، فتبنّى لغة تلعب الشتائم فيها دوراً من أدوار البطولة، جاذباً الراغبين/المحرومين من استخدامها إلى الضوء: شتائم على المسرح والراديو والمقابلات.

انقلاب أم "تلقيم بالملعقة"؟

مع موجة الربيع العربي تبنى زياد موقفاً بدا في ظاهره مناقضاً لتاريخه ومقولاته الفنيّة، وشَعر جزء معتبر من جمهوره بخيبة أمل من المفارقة بين نتاج زياد المناهض للظلم بأشكاله، وبين تصريحاته التي دعمت أحد أشد ديكتاتوريات التاريخ شرّاً وظلماً، بل حتى تحالفاته السياسية مع حزب الله الطائفي الديني، وإن كانت هذه المواقف متماهية إلى حدّ بعيد مع تيار أقصى اليسار اللبناني، والسوري، والذي جمع جوقةً تعادي الانسان السوريّ وجدت لها منبراً في جريدة الأخبار التي لم تترك فرصة لطعن الثورة السورية دون أن تشحذ خناجرها في قلبها.فهل بدّل زياد جلده؟ هل انقلب حقاً في تصريحاته على ما قاله في أعماله؟ في مسرحه على وجه الخصوص؟

لو راجعنا نتاج زياد المسرحي وفحصناه بدقة وبعيداً عن التفكير الرغبوي، لربما وجدنا إجابات أكثر وعياً من اتهام الرجل بالتناقض، فهو ليس مراهقاً تقوده انفعالاته، هو صاحب مشروع متماسك أحادي الاتجاه، أيديولوجي الوعي والتصلّب. ومن غير المعقول أن تُفسر تصريحاته وتحالفاته بإنها انقلاب أو تحوّل طائفي وحسب.

باستثناء عمله "الرحبانيّ" الأول "سهريّة في قهوة نخلة التنين"، لا نجاح ولا انتصار في مسرح زياد، بل إن البحث في كل الشخصيات التي خلقها على الخشبة، سواء تلك التي جسدها بنفسه أو أحاط بها نجوميته المطلقة، يوصلنا إلى نتيجة ملفتة: الكل دائر بين مهزوم وشرير، جاهل وأفّاق، كتلة بشرية هائلة من السلبيات المطلقة: الفنان منفصم عن الواقع أو استغلالي دنيء أو كاذب بلا أخلاق، الشاعر مدعٍ بلا موهبة، النساء خائنات أو بائعات هوى أو مغرقات في التفاهة، أصحاب القضايا مصابون بالعمى الأيديولوجي، الثوار حمقى أو سفلة مصلحيون، البرجوازيون لصوص، حتى الأطباء النفسيون: معتلّون أكثر من مرضاهم.

الكل أعداء زياد الذي ينظر إليهم بدونيّة مرعبة، ويعجزك البحث عن ناجٍ واحدٍ في شخصيات أعماله لا تشمله هذه النظرة. المجتمع بكامله: خصوم دون مستوى الخصومة النبيلة التي تنصف الخصم، ومن هنا أطرح سؤالاً بسيطاً مرًّ قد تساعد الإجابة عليه في فهم انسجام تصريحات وأعمال زياد مع ذاته:

من هم جمهور زياد وحلفاؤه في معركته المفترضة ضد الظلم والتخلف والاستغلال؟ ضد الكذب واللاأخلاق؟

يبدو أنّ ثمة وهماً يشبه الأسطورة في رؤية جمهور زياد لنفسه، كيف وعلى أي أساس منح "معجب" أو "معجبة" ذواتهم استثناءً ليخرجوا من دائرة رؤية زياد للمجتمع الشرقي التي قدمها في أعماله؟

ولنعد السؤال بصداميّة أشد مباشرة:

إن كنتَ من جمهور زياد: فمن أنت في أعماله؟ كيف عرفتَ أنّك لست الشاعر عديم الموهبة؟ لستَ زكريا الذي يبيع زوجته؟ أو زكريا الذي "ركبت قرونه ولم يركب الخزان؟" لست الموسيقي قيصر المهزوم؟ أو الثائر عباس الذي باع ثورته ليهرب مع صاحبة نزل السرور؟ لستَ أبو الجواهر؟ أو أبو العبد الضائع في معرفته السطحية وادعاءات الفهم المطلق؟ كيف عرفتِ أنكِ لست ثريا "بالنسبة لبكرا شو"؟ أو لورا "شيء فاشل"؟ ومئة كيف بعدد الشخصيات في أعماله. أيعقل أنّ لا تجد ذاتك في مسرح فنان تقول أنّه صنع وعيك؟ أو ساهم في صنعه؟

لا أحسبُ بحالٍ من الأحوال أن زياد الرحباني قد انقلب على ما قدّمه من أعمال، هو واضح تماماً منذ عمله الأول خارج عباءة أبيه: "نزل السرور" 1974، قصة ثورة مفترضة على الظلم، ثورة يقودها حمقى وتعمل لتحرير خانعين بلا كرامة، دون أي بديل ممكن أو ثقب مهما تضاءل ليدخل منه نور ما.. واللافت حقاً في هذا العمل الكئيب السوداوي النهاية، أنه قُدم في مرحلة لم يكن فيها أي حراك شعبيّ ثوري مسلّح في كل المنطقة، لقد قالها زياد – برأيي – بوضوح مطلق قبل الربيع العربي بأربعة عقود تقريباً: أنتم شعوب لا أمل منها ولا من ثوراتها ولا من نخبها ولا من عوامها. أنتم جميعاً بلا استثناء، بل إني أجد في تحالفه مع حزب الله تكريساً لرؤيته العدمية لشعوب منطقته، لا نكوصاً عن عدم إيمانه بقدرتها على التحرر. فأيّ عدميّة أكثر من أن يكون الفرح الوحيد المباح هو الاحتفال بالموت وثأر عمره ألف وخمسمئة عام؟

إذن:

قالها زياد بوضوح منذ البداية، ولكنّ غروراً غريباً تملّك جمهوره ليمنح ذاته جمعيّاًَ استثناءً غير عقلاني يخرجه من دائرة النظرة الدونيّة التي جسده فيها زياد في أعماله، ومسرحه على وجه الخصوص، وبالغ الجمهور في إنكاره لهذه النظرة حين اعتبر تصريح زياد عن رؤيته: انقلاباً على مواقفه، دون أن يفكّر بمراجعة المواقف ذاتها، لعلّ سوء فهم وقع هنا أو هناك.

Loading ads...

اعتمد هذا الجمهور طويلاً على وهم أنّه يقف مع زياد ضد المجتمع، وحينّ قالها زياد دون مواربة: أنتم جميعاً بلا استثناء المجتمع الذي سخرت منه ورأيته وأراه ميؤوساً منه. اختلق الجمهور حلّا دفاعياً يرتكز على الإنكار والإغراق في الوهم ككل الحلول الدفاعية النفسية، بدل مراجعة عقلانية لنتاج الرجل. وأشد ما في هذا بؤساً أنه يدعم نظرة زياد، وإن كان يحصرها في جمهوره.

لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه