في قراءة فاحصة للمشهد السوري الراهن الذي يعج بالتحولات الدراماتيكية والمنعطفات التاريخية الحادة التي تضرب العالم عامة والمنطقة العربية خاصة وتعيد تشكيل خرائط النفوذ والقوى، تتجلى التجربة السورية يوما بعد يوم حالةً فريدةً في علم الاجتماع السياسي، تثبت من خلالها دقة الحكمة القائلة: رُبَّ ضارّةٍ نافعة، وتؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن المحن الكبرى تحمل في طياتها منحاً أعظم، وأن الضربات التي لا تقصم ظهر الأوطان تزيدها صلابة ومنعة، مصداقا للوعد الإلهي ﴿وَعَسَىٰۤ أَن تَكۡرَهُوا۟ شَیۡـࣰٔا وَهُوَ خَیۡرࣱ لَّكُمۡ﴾ [البقرة ٢١٦]. ولعل ذلك ينطبق اليوم بوضوحٍ على الواقع السوري الذي يشهد حالة غير مسبوقة من الانصهار الوطني والالتفاف الشعبي حول القيادة الجديدة ممثلة بالرئيس أحمد الشرع، وهي حالة فريدة من نوعها لم تكن لتتبلور بهذا الزخم وبهذه السرعة القياسية في أقل من عامٍ، لولا تلك الدعوات النشاز والمحاولات البائسة لتمزيق الجسد السوري وتفتيت عضده، سواء تلك التي أطلقها المدعو حكمة الهجري في محافظة السويداء بدعواته الانفصالية المفضوحة، أم تلك المشاريع الفيدرالية التقسيمية التي تروج لها ميليشيات قسد في الجزيرة السورية، أم تلك التي أطلقها المدعو غزال غزال الذي انقلب بين ليلة وضحاها من شبيح إلى شيخ، إذ يبدو أن هؤلاء جميعا ومن يقف خلفهم في الغرف السوداء من أجهزة استخبارات وقوى دولية قد جهلوا تماماً أو تجاهلوا الحالة التي وصل إليها بعد التحريرِ الشعبُ السوريُّ الذي قد يختلف في التفاصيل والهوامش، وقد تعلو أصواته بالشكوى في أوقات الرخاء، لكنه يتوحد بصلابة الفولاذ عند الأساسيات والثوابت الوجودية، فمن يراقب الشأن السوري بعين الحياد والموضوعية يلحظ بوضوح أن نسبة عالية من أبناء الحاضنة الثورية نفسها يمارسون في فترات الاسترخاء السياسي والهدوء النسبي حقهم الطبيعي في رفع سقف النقد تجاه الحكومة، ويتحولون إلى رقباء صارمين يحاسبون المسؤولين على كل صغيرة وكبيرة، وينتقدون بحدّةٍ الأداء الخدمي أو الترهل الإداري أو التصريحات الرسمية التي لا تتواءم مع طموحاتهم وآمالهم ولعل آخرها النقد الذي طال تصريحات معاون إدارة الهجرة والجوازات والذي أجبره على التراجع عنها والاعتذار للشعب، وهو حراك نقدي يُعد في عرف الدول الحية ظاهرة صحية ودليلَ عافيةٍ ورغبة في البناء والإصلاح والتطوير، إلا أن المعادلة السورية المعقدة تنقلب رأساً على عقب وبشكل دراماتيكي بمجرد أن يستشعر السوريون خطرا وجوديا حقيقيا يهدِّد وحدة الخارطة أو يمس بالسيادة الوطنية ، فهنا تتلاشى الفروقات، وتذوب الخلافات، وتتراجع أولويات لقمة العيش أمام أولوية حياة الوطن، ولعل الجميع رأى أنه حين خرج صوت عميلٍ يجاهر بالولاء للخارج، ويحرّض على الفتنة، ويطالب بالفيدرالية المشبوهة التي هي الوجه الآخر للتقسيم، أو الانفصال الصريح الذي يضرب وحدة التراب، حدث ما لم يكن في حسبان المتآمرين والمتربصين، إذ تحولت هذه الدعوات والتهديدات بدلاً من أن تكون معاول هدم، إلى وقود حيوي أجج الروح الوطنية الكامنة، وإلى محفزات قوية أعادت ترتيب الأولويات في العقل الجمعي السوري، فدفعت الشعب بكل أطيافه ومكوناته إلى نسيان خلافاته الداخلية، وتجاوز نقد الحكومة وملاحظاته على أدائها، للانتقال الفوري التلقائي والعفوي من خانة النقد والمحاسبة والمطلبية إلى خانة التمجيد والدعم المطلق والتأييد غير المشروط للقيادة السياسية الجديدة، معتبرين أن الرئيس أحمد الشرع في هذه المرحلة الدقيقة ليس رئيس دولة فحسب، وإنما الرمز الجامع وصمام الأمان والضامن لوحدة الأراضي السورية في وجه مشاريع التفتيت والكانتونات المتناحرة، وقد أدرك المواطن السوري البسيط بوعيه الفطري، قبل النخب والمثقفين، أن دعوات غزال غزال وحكمة الهجري وقسد ليست مطالب حقوقية مشروعة كما يروجون، وإنما هي خناجر مسمومة تغرس في خاصرة الدولة السورية في توقيت إقليمي ودولي حرج للغاية، وأن الهدف منها ليس تحسين واقع الناس وإنما تدمير الدولة المركزية لصالح أمراء الحرب والأجندات الخارجية، وقد حوَّل هذا الوعي السهام الانفصالية إلى أوتاد تثبت خيمة الوحدة الوطنية بدلاً من أن تمزقها، ولا أدلّ على هذا التحول الجذري في المزاج العام والوعي الجمعي العميق من ذلك المشهد المهيب والتاريخي الذي سطره السوريون بمداد من الوفاء يوم الجمعة الثامن والعشرين من تشرين الثاني لعام 2025، حين لبوا دعوة الرئيس أحمد الشرع للخروج إلى الساحات والميادين احتفالا بالذكرى الأولى لانطلاق معركة ردع العدوان، وازدحمت المدن والقرى والبلدات والساحات العامة في عموم الجغرافيا السورية بحشود بشرية هائلة، في مشهد يشبه الطوفان البشري، لم تخرج هذه الجموع لمجرد الاحتفال بذكرى أو مناسبة عابرة، ولم تخرج بالإكراه أو التعبئة التقليدية، ولكنها خرجت لتقول كلمتها الفصل في استفتاء عفوي وعلني على الشرعية والوحدة والمصير المشترك، مشكِّلةً بذلك درعا معنويا وحصنا منيعا للحكومة والقيادة في ظل ما تواجهه من تحديات جمة وضغوطات خارجية هائلة، فكانت تلك الحشود رسالة سياسية بليغة عابرة للحدود، موجهة لكل من يهمه الأمر، مفادها أن الرهان على بعض الأخطاء هنا وهناك أو على تعب الناس أو فقرهم أو معاناتهم المعيشية لإحداث شرخ بينهم وبين قيادتهم هو رهان خاسر وساقط، وأن الأزمات، مهما اشتدت وقست، لا تزيد هذا الشعب إلا تماسكا والتفافا حول رايته الوطنية، وأن محاولات اللعب على الوتر الطائفي أو المناطقي أو العرقي التي يمارسها عملاء الخارج، ترتد خائبة وتتحول إلى عامل توحيد ورصّ للصفوف بدلاً من أن تكون عامل تفرقة، وقد أثبت السوريون أنهم يمتلكون بوصلة وطنية دقيقة لا تخطئ الاتجاه عند العواصف، وأنهم قادرون على تمييز الغث من السمين، والعميل من الوطني، وأنهم يدركون بوعيهم وتجربتهم المريرة أن هذه المرحلة لا تحتمل القسمة ولا التشرذم بجميع صوره وأشكاله، وتتطلب الوحدة ونبذ الفرقة والوقوف صفا واحدا خلف القيادة لاستكمال ردع العدوان وبناء الدولة الحديثة لجميع أبنائها بمختلف انتماءاتهم وأعراقهم ومعتقداتهم، فما يفعله هؤلاء الانفصاليون من حيث لا يشعرون هو أنهم يقدمون أعظم خدمة للنظام السياسي وللدولة السورية، إذ يعيدون تذكير الناس بنعمة الدولة الوطنية في مقابل جحيم الميليشيات والدويلات، ويجعلون من الرئيس الشرع رمزا للإنقاذ والخلاص الوطني، ويدفعون السوريين إلى أن يخطّوا -وهم يعبرون هذا النفق التاريخي- سطراً جديداً في ملحمة صمودهم، والتأكيد على أن سوريا عصية على الكسر، وأن كل محاولة للنيل منها ستتحول إلى طاقة إيجابية تعزز مناعتها الداخلية، وكأن لسان حال السوريين اليوم، وهم يحتشدون في الساحات ويهتفون لوحدة بلادهم، يردد بصدق وإيمان عميق، وبصوت واحد يجلجل في سماء المنطقة، أبيات عمر أبي ريشة التي يختصر فيها حكاية الألم والأمل والوحدة:
درجَ البغيُ عليها حقبةً
وهوى دونَ بلوغِ الأربِ
وارتمى كبرُ الليالي دونَها
لينُ نابٍ كليلِ المخلبِ
يا عروسَ المجدِ تيهي واسحبي
في مغانينا ذيولَ الشُهُبِ
يا عروسَ المجدِ طابَ الملتقى
بعدما طالَ جوى المُغتربِ
قد عرفنا مهركَ الغالي فلم
نرخصِ المهرَ ولم نحتسبِ
فحملنا لكِ إكليلَ الوفا
ومشينا فوقَ هامِ النُوَبِ
وأرقناها دماءً حرّةً
فاغرفي ما شئتِ منها واشربي
لن تري حفنةَ رملٍ فوقها
لم تُعطرْ بدمِ حرٍّ أبيّ
لَمَّت الآلامُ منّا شملَنا
ونمَتْ ما بينَنا من نَسَبِ
بوركَ الخطبُ، فكم لفَّ على
سهمِهِ أشتاتَ شعبٍ مُغضبِ
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه
اقرأ أيضاً





