شهد قطاع الفوسفات السوري خلال السنوات الماضية واحدة من أكثر حالات الاحتكار وضوحًا في تاريخ استثمار الموارد الطبيعية في البلاد، إذ ارتبط هذا القطاع الحيوي بعقود طويلة الأمد مع شركات روسية في ظل نظام بشار الأسد، ما قيّد قدرة سوريا على تنويع شركائها أو تعظيم العوائد الاقتصادية من واحدة من أهم ثرواتها التعدينية.
ففي عام 2018، صادق النظام السابق على عقد استثمار يمتد لخمسين عامًا مع شركة “ستروي ترانس غاز” الروسية، منحها حق استغلال مناجم الفوسفات في المنطقة الشرقية من محافظة حمص، مع خطة إنتاج سنوية تصل إلى نحو 2.2 مليون طن، في اتفاقية وُصفت حينها بأنها مجحفة من حيث الشروط والعوائد، خصوصًا في ظل غياب الشفافية وتراجع حصة الدولة السورية من الأرباح.
نفوذ روسي يتجاوز العقود المعلنة
لم يقتصر النفوذ الروسي على هذا العقد المعلن فحسب، بل شمل معظم الاستثمارات المرتبطة بقطاع الفوسفات، حيث كانت الشركات الروسية اللاعب شبه الوحيد في عمليات الاستخراج والتأهيل والإنتاج.
كما بدأت منذ عام 2017 شركات روسية غير معلنة رسميًا، مرتبطة بمجموعة “ستروي ترانس غاز”، تنفيذ أعمال صيانة وإعادة تشغيل في مناجم “خنيفيس” قرب مدينة تدمر، مستفيدة من السيطرة العسكرية والأمنية التي وفّرها النظام السابق وحلفاؤه، ما كرّس واقعًا احتكاريًا حرم الاقتصاد السوري من فرص حقيقية للتنافس وجذب استثمارات متعددة الجنسيات.
هذا الواقع بدأ يشهد تحولًا لافتًا مع وصول الحكومة السورية الانتقالية، التي اتخذت خطوة وُصفت بالمفصلية في مسار استعادة القرار السيادي على الموارد الطبيعية، عبر كسر الاحتكار الروسي لقطاع الفوسفات، فقد وقّعت المؤسسة العامة للجيولوجيا والثروة المعدنية اتفاقية تعاون مع مجموعة “إلكسير” الصربية، تقضي بتصدير 1.5 مليون طن من خام الفوسفات السوري خلال عام 2026، في أول شراكة من نوعها مع شركة أوروبية خارج الفلك الروسي منذ أكثر من عقد.
كسر الاحتكار وبداية التحول
تحمل هذه الاتفاقية أبعادًا تتجاوز مجرد التصدير، إذ تشمل جميع مراحل الاستثمار، بدءًا من الدراسات الجيولوجية وأعمال الاستكشاف، مرورًا بعمليات الاستخراج والإنتاج، وصولًا إلى التصدير المباشر للأسواق الأوروبية.
تهدف الصفقة إلى رفع إنتاج الفوسفات السوري إلى نحو 5 ملايين طن سنويًا خلال عام 2026، وهو رقم يفوق بأكثر من الضعف متوسط الإنتاج في ظل العقود السابقة، ما يعكس توجهًا حكوميًا نحو تعظيم الاستفادة من الموارد الوطنية بدل الاكتفاء بتصدير الخام بكميات محدودة وأسعار منخفضة.
وتُعد الاتفاقية الموقعة مع المجموعة الصربية، التي تمثلها محليًا شركة “ترياق”، خطوة أولى ضمن استراتيجية أوسع لتطوير قطاع الفوسفات السوري، إذ تخطط المؤسسة العامة للجيولوجيا والثروة المعدنية لرفع حجم الإنتاج إلى ما بين 7 و8 ملايين طن سنويًا في السنوات اللاحقة.
شريك أوروبي بثقل عالمي
ترتكز هذه الاستراتيجية على زيادة القيمة المضافة للثروات الوطنية، سواء عبر تحسين تقنيات الاستخراج أو التوسع في الصناعات التحويلية المرتبطة بالفوسفات، بما يتيح فرص عمل جديدة، ويعزز الإيرادات العامة، ويدعم ميزان الصادرات في اقتصاد يعاني من اختلالات هيكلية عميقة.
وتكتسب الشراكة مع مجموعة “إلكسير” أهمية خاصة بالنظر إلى مكانة الشركة في السوق العالمية، إذ تُعد من كبرى الشركات الأوروبية العاملة في مجال الأسمدة الفوسفاتية، وتمتلك المجموعة أكبر مصنع لإنتاج حمض الفوسفوريك في صربيا، إضافة إلى ثلاثة معامل متخصصة بإنتاج الأسمدة، ويبلغ إنتاجها السنوي أكثر من مليون طن من الفوسفات ومشتقاته، مع شبكة تصدير واسعة تمتد إلى أكثر من 85 دولة حول العالم.
ويُنظر إلى دخول شركة بهذا الثقل إلى السوق السورية على أنه مؤشر على تحسن نسبي في بيئة الاستثمار، ورغبة الحكومة الانتقالية في إعادة دمج سوريا تدريجيًا في سلاسل التوريد العالمية.
رسالة اقتصادية وسيادية
في المحصلة، لا تمثل هذه الاتفاقية مجرد عقد تجاري جديد، بل تعكس تحولًا سياسيًا واقتصاديًا في طريقة إدارة الموارد الطبيعية، ومحاولة جادة لفك الارتباط مع نمط الاحتكار الذي ساد خلال العقود الماضية.
ومع أن الطريق لا يزال طويلًا أمام إعادة بناء قطاع التعدين السوري وفق معايير الحوكمة الرشيدة والشفافية، فإن كسر الاحتكار الروسي في ملف الفوسفات يشكل رسالة واضحة بأن الثروات الوطنية باتت ورقة أساسية في مشروع التعافي الاقتصادي وإعادة صياغة علاقات سوريا الدولية على أسس أكثر توازنًا.
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه






