Syria News
جاري تحميل الأخبار العاجلة...
2 ساعات

فقاعة الوهم وتزييف الوعي

الأحد، 14 سبتمبر 2025
فقاعة الوهم وتزييف الوعي

غزوان قرنفل

في عالم مضطرب تحكمه الصورة العابرة قبل الكلمة الراسخة، وتقاس فيه الشرعية بعدد الإعجابات والتعليقات على وسائل التواصل أكثر مما تقاس بمدى تحقيق العدالة والنماء والكرامة، تلجأ السلطات المستبدة عادة إلى حيل جديدة لإدامة حضورها وتثبيت قبضتها، حتى إنها جعلت من التطبيل وظيفة تُعقد لأجلها المؤتمرات ويُستجلب لأجلها “المؤثرون”!

السلطة السورية الجديدة، وبدلًا من البحث عن المشتركات الوطنية بما يعزز إمكانية إنجاز عملية التحول الديمقراطي التي هي هدف الثورة والتغيير، وجدت ضالتها في بناء فقاعة وهمية، تتوسل أدوات الإعلام الرقمي والجيش الإلكتروني والجوقة المنظمة من “المؤثرين” المأجورين، بهدف تزييف وعي الجمهور وإيهام الداخل والخارج بوجود قبول شعبي واسع، بينما الواقع بدأ يؤشر إلى عكس ذلك تمامًا.

هذه الفقاعة ليست مجرد دعاية عابرة، بل مشروع متكامل لإعادة تشكيل الإدراك الجمعي واحتكار السردية، بما يحوّل أي انتقاد إلى شيء هامشي، وأي رفض إلى استثناء، وأي معارضة إلى “خيانة” أو “تآمر” أو “عمالة”، في مسعى منها لإعادة هندسة الوعي الجمعي عبر قنوات حديثة تحاكي مظاهر الحداثة والانتشار، لكنها في جوهرها امتداد تقني لمنهج البروباغندا “الغوبلزية”، التي اعتمدتها الأنظمة السلطوية لعقود طويلة. هكذا فعل هتلر وموسوليني وستالين، وهكذا يفعل طغاة الزمن المعاصر أيضًا.

والحقيقة أن السلطة السورية الجديدة تعتمد على ثلاثة مرتكزات لصناعة الوهم، أولها جيش إلكتروني وفرق منظمة من الحسابات الوهمية أو شبه الوهمية، وظيفتها إغراق الفضاء الرقمي بمحتوى متكرر، يضخم الإنجازات المزعومة ويهاجم أو يهمش أي خطاب ناقد، وهي حسابات تعمل على مدار الساعة، وتعيد إنتاج الرسائل الرسمية بأشكال متنوعة، فتبدو وكأنها صادرة عن جمهور واسع بينما هي في الحقيقة مجرد صدى باهت لمصدر واحد.

وثانيها جوقة “المؤثرين” الذين يُصنّعون عمدًا، أو يُستقطبون بالترغيب أو الترهيب، ويقدمون أنفسهم بلبوس المراقب المحايد، أو بروح شبابية قريبة من الناس، لكنهم في الواقع منصّبون على تلميع صورة السلطة وسلوكها وقراراتها مهما فعلت ومهما وطئت القانون بحذائها، وهؤلاء يمنحون مساحات أوسع، ودعمًا تقنيًا وإعلانيًا وإعلاميًا حتى يطغى حضورهم على أي صوت مستقل أو ناقد.

وأما ثالثها فهو اعتماد آلية التكرار والانتشار، فالرسالة الدعائية الواحدة لا تُترك لتقال مرة فقط، بل تُكرر عشرات المرات عبر قنوات مختلفة، مرة في صفحة إخبارية، وأخرى في حساب شخصي، وثالثة في فيديو قصير، أو حتى في تعليق على منشور، فالتكرار المتواصل يحول الكذبة إلى “حقيقة افتراضية” يسهل على العقول المتعبة قبولها.

ولا شك أن هدف هذه الفقاعة هو إنتاج صورة زائفة لشعبية السلطة، وتكريس اعتقاد لدى الرأي العام أن الشعب مصطف خلف القيادة الجديدة، وأن أي معارضة ليست سوى أصوات معزولة أو ممولة من الخارج. هذه الصورة تخاطب الداخل لتثبيط العزائم وإشاعة الإحباط، وتخاطب الخارج لإقناعه بأن “الاستقرار” عاد وأن لا جدوى من دعم معارضة لا قاعدة لها، لكن الهدف الأعمق يتجاوز الصورة السياسية المباشرة، ليصل إلى التحكم بالوعي نفسه، حين يعتاد الفرد على تدفق محتوى متشابه من عشرات القنوات مليء بالمعلومات الناقصة أو المضللة والأخبار المجتزأة عن سياقها، والحرص على إبراز جزء من المشهد فحسب، وتضخيم حدث اقتصادي صغير ليقدم كإنجاز وطني، في تجاهل مقصود لموجبات الشفافية، ما يؤسس لمنظومة فساد جديدة. كما يتم تجاهل حقائق الفقر والجوع والبطالة والانهيار المعيشي وانعدام الخدمات، الأمر الذي يفقد المواطن معه تدريجيًا قدرته على التمييز بين الحقيقة والزيف، ويصبح أكثر قابلية للاستسلام للأقوى صوتًا لا للأصدق مضمونًا، وهنا تكمن خطورة الوهم بكونه لا يخدع الآخر فقط، بل يزيف الوعي ويغير طبيعة إدراكه لما يحصل حوله وفي العالم، ما يعيد إنتاج تربة الاستبداد مجددًا ويهيئ لاستنبات منظومة طغيان جديدة.

لكن الفقاعة تبقى هشة، وستنفجر يومًا رغم قوة الأدوات الرقمية، فالواقع المعيشي لا يمكن تزويره طويلًا، والجوع لا يتوارى بمنشور على “فيسبوك”، والفقر المائي وانقطاع الكهرباء لا يعالَج بمقطع دعائي، وستأتي اللحظة، رغم كل هذا الإغراق الدعائي، التي ستنفجر فيها فقاعة الوهم ويتبدى التناقض بين الخطاب والواقع العاري، فلطالما علّمنا التاريخ أن الوعي المغيّب سرعان ما يستيقظ حين يصطدم بالمعاناة المحسوسة، لكن خطورة الأمر تكمن في الزمن الضائع بين بناء الوهم وانهياره، حيث تُهدر الطاقات وتتعطل طويلًا إمكانات التغيير.

Loading ads...

فقاعة الوهم التي تبنيها السلطة السورية الجديدة ليست مجرد استراتيجية إعلامية، بل هي مشروع للسيطرة على الوعي الجمعي وترويضه، جيش إلكتروني، وجوقة مطبّلين و”مؤثرين”، ورسائل متكررة، وأعداء مصطنعون، وعواطف مبتذلة ومستهلكة، كلها أدوات يتم تسخيرها وتُعقد المهرجانات لها لصناعة شعبية زائفة تتوسلها السلطة كغطاء لاستمرارها، لكن الحقائق لا تُحجب للأبد، فالجوع والظلم وغياب الأمل، كلها كفيلة بتمزيق الفقاعة، والتاريخ مليء بالشواهد على أن وعي الشعوب مهما تعرض للتزييف يستعيد نفسه يومًا، عندها تنكشف الخديعة وتتبدى الحقائق ويسقط الوهم، لكن السؤال هو كم من الوقت سيُهدر، وكم من الدماء ستُسفح، قبل أن يحدث ذلك؟!

لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه