تحسن الليرة بعد "قيصر" يطرح السؤال الأصعب: ما شروط التعافي الحقيقي؟

أثار التحسن الطفيف الذي سجلته الليرة السورية في الأيام التي تلت تصويت مجلس النواب الأميركي على إلغاء “قانون قيصر”، الخميس الماضي”، موجة من التفاؤل الحذر في الأوساط الاقتصادية والشعبية، باعتباره تطورًا سياسيًا طال انتظاره وقد يحمل في طياته إشارات انفراج بعد سنوات من الضغوط الخانقة.

غير أن هذا التحسن، على محدوديته، فتح في الوقت نفسه نقاشًا واسعًا حول ما إذا كان يعكس بداية مسار تعافٍ حقيقي أم أنه مجرد استجابة نفسية سريعة لحدث سياسي لم تُترجم مفاعيله الاقتصادية بعد على أرض الواقع.

حركة محدودة في السوق

عقب ساعات من القرار الأميركي شهد سعر صرف الليرة السورية، تحسنًا محدودًا ولكنه لافت في قيمتها مقابل الدولار الأميركي، وسجل الدولار الأميركي في سعرًا بلغ 11,800 ليرة للشراء و 11,850 ليرة سورية للمبيع، وفقًا لبيانات مصادر السوق التي رصدتها منصة متابعة العملات “الليرة اليوم“.

جاء هذا التراجع بعد أن كان الدولار قد تخطى في السوق الموازية بالأمس القريب 12,000 ليرة، بينما يحافظ المصرف المركزي السوري على موقفه المتحفظ تجاه هذه التطورات، مستمرًا في سياسة التثبيت المعلنة لسعر صرف الدولار ضمن النشرة الرسمية الصادرة عنه، حيث بقي السعر عند 11,000 ليرة للشراء و 11,110 ليرة للمبيع.

في هذا السياق، يرى الباحث والمحلل الأول في شركة “كرم شعار” للاستشارات، بنجامين فيف، أن ما شهدته الليرة من تحسن نسبي لا يمكن اعتباره مؤشرًا كافيًا أو مستدامًا على تعافي الاقتصاد السوري، مؤكدًا أن سعر الصرف، بوصفه مرآة للاقتصاد، لا يستجيب فقط للأخبار السياسية الإيجابية، بل يتأثر بصورة أعمق بعوامل هيكلية تتعلق بقدرة الاقتصاد على توليد تدفقات نقدية حقيقية ومنتظمة، وبمدى موثوقية السياسات النقدية والمالية المتبعة.

ثلاثة شروط لتحول التحسن إلى استقرار

يشرح فيف في تصريحات صحفية، أن التحسن الحالي يبقى أثره مرهونًا بثلاثة شروط أساسية، أولها الاستمرارية الزمنية، إذ إن أي ارتفاع أو تحسن لا يصمد لأكثر من أيام أو أسابيع سرعان ما يفقد دلالته الاقتصادية، أما الشرط الثاني فيتمثل في وجود تدفقات مالية حقيقية تمر عبر قنوات رسمية، سواء من خلال الصادرات، أو الاستثمارات، أو التحويلات الخارجية المنظمة، وهو عنصر لا يزال ضعيفًا في ظل هشاشة البنية المصرفية وقيود الثقة.

يأتي الشرط الثالث بحسب فيف، مرتبطًا بوجود سياسات نقدية موثوقة وقابلة للتنبؤ، بما يحدّ من المضاربات ويعزز الاستقرار بدلاً من التقلبات الحادة، مؤكدًا في الوقت ذاته أن تحسن سعر الصرف، ولو بشكل محدود، يترك آثارًا إيجابية فورية، أبرزها تخفيف التضخم المستورد الذي أنهك القدرة الشرائية للسوريين خلال السنوات الماضية، إضافة إلى بث قدر من الثقة المؤقتة في الأسواق، سواء لدى التجار أو المستهلكين.

هذا الأثر الإيجابي، بحسب تقديره، قد ينقلب إلى نتيجة عكسية إذا تجاوزت الليرة مستواها “الطبيعي” قياسًا إلى أساسيات الاقتصاد، إذ يؤدي ذلك إلى تراجع القيمة المحلية للتحويلات الخارجية، وهي أحد الشرايين القليلة المتبقية لتأمين السيولة للأسر السورية.

مخاوف من عودة القلق سريعًا

يحذر فيف من أن غياب الثقة، أو استمرار غياب التدفقات المنظمة، كفيلان بجعل هذا التحسن عابرًا، ما يعيد الأسواق سريعًا إلى حالة القلق والترقب التي سادت قبل قرار إلغاء “قيصر”، مشيرًا إلى أن المستثمرين، المحليين والخارجيين على حد سواء، لا يبحثون عن قفزات مفاجئة في سعر الصرف بقدر ما يبحثون عن استقرار يمكن توقعه وبناء القرارات عليه، سواء في التسعير أو التخطيط أو الاستثمار.

يأتي ذلك بعد تمرير مجلس النواب الأميركي مشروع قانون موازنة الدفاع الوطني الذي تضمن إلغاء “قانون قيصر” للعقوبات، واستبداله بتقارير دورية كل 180 يومًا.

ولن يكون إلغاء العقوبات فوريًا أو مطلقًا، بل سيكون مشروطًا بوفاء الحكومة السورية بـ 8 معايير سياسية وأمنية وإنسانية، حيث تتضمن الشروط أن تبادر دمشق إلى اتخاذ خطوات ملموسة.

معايير صارمة ومسار طويل للتعافي

من هذه الشروط التعاون مع الولايات المتحدة لمكافحة الإرهاب ومنع عودة تنظيمات مثل “داعش”، وإخراج المقاتلين الأجانب من مؤسسات الدولة والأمن، إضافة إلى حماية حقوق الأقليات، فضلًا عن تطبيق اتفاقيات محددة، مثل اتفاق 10 آذار/مارس 2025 مع “قسد”، ذلك على أن يتم مراجعة التزام الحكومة السورية بهذه المعايير دوريًا كل 180 يومًا ولمدة أربع سنوات.

تعد تلك الخطوة سياسية مفصلية، لكنها لا تعني تلقائيًا رفعًا شاملًا للعقوبات أو تدفقًا فوريًا للأموال، فالتحول من قرار سياسي إلى أثر اقتصادي ملموس يتطلب مسارًا طويلًا من الإجراءات، والإصلاحات الداخلية.

وعليه، فإن التحسن الطفيف في سعر صرف الليرة يمكن قراءته بوصفه إشارة نفسية إيجابية أكثر منه تحولًا بنيويًا، تعكس توقّعات الأسواق لا واقعها الفعلي، وهو تحسن قابل للتبدد سريعًا إذا لم يُدعّم بخطوات عملية تعزز الثقة وتفتح قنوات تدفق حقيقية ومستدامة.