مهرجان “إدفا” والتحولات السياسية: كيف فرضت غزة مقاطعة إسرائيل في أمستردام؟

يُعد مهرجان أمستردام الدولي للفيلم الوثائقي “إدفا” أحد أهم المهرجانات الوثائقية وأعرقها في العالم، فليس منصة لعرض الأفلام فحسب، بل فاعل ثقافي وسياسي مؤثر. ومنذ تأسيسه عام 1988، تبنى هوية مؤسسية ترفض الحياد، وتصف نفسها بأنها “مؤسسة ملتزمة ذات منظور نقدي اجتماعي”.من وسط أمستردام، لافتة مهرجان “إدفا” تحمل شعاره الدائم: “نعكس على الواقع، تأمل المجتمع”. عبارة تختصر فلسفة المهرجان منذ تأسيسه، فلم يعد الفيلم الوثائقي مجرد نافذة على العالم، بل مرآة نقدية له. في ظل تحولات 2025، تبدو هذه العبارة نبوءة مبكرة لانتقال المهرجان من التوثيق إلى الموقف، ومن الحياد إلى المساءلة الأخلاقيةهذا الالتزام التاريخي بالانخراط في القضايا الشائكة، قد وضع المهرجان في قلب عاصفة سياسية وأخلاقية، بلغت ذروتها في قراره التاريخي بمنع المؤسسات الإسرائيلية المدعومة حكوميا من المشاركة في دورته عام 2025.كشف مهرجان أمستردام الدولي للفيلم الوثائقي “إدفا” الستار عن التشكيلات الكاملة بمسابقاته، مستكملا بذلك برنامجه للدورة الـ38 التي تُقام في العاصمة الهولندية بين 13-23 نوفمبر/ تشرين الثاني 2025. وتزخر البرمجة بعروض أولى على المستويين العالمي والدولي، مما يعكس موقع “إدفا” بوصفه أكبر تظاهرة مكرّسة للسينما غير الروائية في العالمففي قرار لافت، أعلن المهرجان رفض اعتماد ممثلين عن مؤسسات إسرائيلية كبرى، مثل “دوكافيف”، و”كوبرو”، وهيئة البث “كان”، لتلقيها تمويلا حكوميا إسرائيليا مرتبطا بانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان في غزة.في قلب أمستردام، تجمّع أكثر من ربع مليون متظاهر في فعالية “الخط الأحمر”، رافعين الأعلام الفلسطينية وشعارات تندد بالإبادة في غزة. هذا المشهد الشعبي غير المسبوق شكّل خلفية قرار مهرجان “إدفا” عام 2025 أخلاقيا وسياسيا، فتماهى الوجدان الثقافي الهولندي مع الوجدان الإنساني، وتحولت العدالة لفلسطين من شعار احتجاجي إلى معيار مؤسسي للفن والضمير (صور غيتي)لم يكن هذا القرار وليد اللحظة، بل نتيجة تفاعل معقد بين هوية المهرجان الراسخة، وأزمة المصداقية التي واجهها عام 2023، والتحول العميق في الرأي العام الأوروبي تجاه الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وسط سياق هولندي تاريخي فريد، يجعل هذا القرار محطة فارقة في تاريخ البلاد.أزمة 2023: شرارة التحوللفهم قرار 2025، لا بد من العودة إلى أزمة نوفمبر 2023، التي هزت أركان المهرجان. ففي حفل الافتتاح، رفع نشطاء لافتة تحمل شعار “من النهر إلى البحر، فلسطين ستتحرر”، فدفع ذلك إدارة المهرجان إلى إصدار اعتذار رسمي، لكون الشعار “مؤذيا” لبعض الناس.متظاهرون مؤيدون لفلسطين يسيرون في شوارع أمستردام – هولندا، احتجاجا على الإبادة الجماعية في غزة، ويرفعون لافتات كُتب عليها “من البحر إلى النهر (أسوشيتد برس)وقد أثار هذا الاعتذار موجة غضب عارمة في صفوف المخرجين والسينمائيين الداعمين للقضية الفلسطينية، وأعلن معهد السينما الفلسطيني وعدد من المخرجين المشاركين سحب أفلامهم، متهمين الإدارة بممارسة “العنف المؤسسي”، و”تجريم السرديات الفلسطينية“.شعار مؤسسة الفيلم الفلسطيني التي قادت الموقف الأخلاقي في أزمة “إدفا” عام 2023، حين انسحب عدد من المخرجين احتجاجا على اعتذار المهرجان عن شعار “من النهر إلى البحر”. من هذه المؤسسة انطلقت الدعوة لمساءلة المهرجانات الغربية عن ازدواجيتها، فكانت صوتا للفنان الفلسطيني، الذي يواجه الرقابة بالوعي، ويتخذ السينما أداة مقاومة ثقافية بامتيازكشفت هذه الأزمة استحالة الموازنة التي حاول المهرجان الحفاظ عليها، فبينما كان يسعى ليكون مساحة آمنة للجميع، أدى اعتذاره إلى فقدان مصداقيته لدى شريحة أساسية من مجتمعه السينمائي، المكون من فنانين ونشطاء يرون الفن أداة للمقاومة والتغيير.اقرأ أيضا list of 4 itemslist 1 of 4مهرجان أمستردام الدولي للفيلم الوثائقي “إدفا – IDFA 2025”: إدارة جديدة وخط تحريري مختلف بعد غزةlist 2 of 4بحضور الوثائقية.. مؤسسة الفيلم الفلسطيني تعرض مشاريعها في “إدفا”list 3 of 4مهرجان إدفا 2024.. الوثائقية تستهل مشاركتها باجتماعات مع المنتجين العربlist 4 of 4الوثائقية تشارك في المسابقة الرسمية لمهرجان إدفا الـ35end of listأدركت الإدارة أن سياسة “عدم الموقف” هي في حد ذاتها موقف، وأن محاولة إرضاء جميع الأطراف في سياق استقطاب حاد، قد أدت إلى تنفير الأصوات الأكثر نقدا، التي يدعي المهرجان دعمها.صدى غزة في شوارع أوروبالم يتخذ المهرجان قراره من فراغ، بل كان صدى مباشرا للتحولات الكبرى في الرأي العام الأوروبي والهولندي. فمع استمرار الحرب على غزة وتزايد بشاعتها، شهدت أوروبا موجة غير مسبوقة من الاحتجاجات المناهضة لإسرائيل.وفي تقرير نشرته صحيفة “الغارديان” البريطانية في الثالث من يونيو 2025، كشف استطلاع أجرته مؤسسة “يوغوف” أن الدعم العام لإسرائيل في دول أوروبا الغربية، قد بلغ “أدنى مستوى له على الإطلاق”.في لاهاي، خرج نحو 150 ألف متظاهر في مسيرة حمراء ضخمة، راسمين “خطا أحمر من أجل غزة”، احتجاجا على الحرب المستمرة. وقد لبسوا ملابس حمراء رمزيا، مطالبين الحكومة الهولندية باتخاذ موقف حازم ضد الحملة العسكرية الإسرائيلية، في واحدة من أضخم المظاهرات المؤيدة لفلسطين في أوروبا عام 2025 (صور غيتي)كانت هولندا -وهي مقر المهرجان- في قلب هذا التحول. ففي 5 أكتوبر 2025، شهدت أمستردام أكبر مظاهرة مناهضة للحرب في تاريخها، وقد شارك فيها ربع مليون إنسان.اشترك فيالنشرة البريديةاشترك في النشرة البريدية وتابع أحدث أفلامنا الوثائقيةوفي استطلاع آخر نشره موقع “التايمز” (NL Times) الهولندي في 9 سبتمبر 2025، تبين أن 65% من الهولنديين لا يدعمون نهج حكومتهم تجاه الحرب، وأن الأغلبية ترى أن إسرائيل ترتكب إبادة جماعية في غزة.هذا الضغط الشعبي الهائل، المقرون بحملات المقاطعة الثقافية التي وقع عليها آلاف الفنانين الأوروبيين، خلق بيئة لم يعد ممكنا فيها تجاهل المطالب بمساءلة المؤسسات الإسرائيلية.حركة المقاطعة الثقافية: من الهامش إلى المركزلم يكن قرار “إدفا” معزولا عن سياق أوسع من التحركات الثقافية المنظمة، بل جاء تتويجا لجهود طويلة، بذلتها حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS) على المستوى الثقافي. فمنذ إطلاقها عام 2005، استهدفت المؤسسات الثقافية الغربية بصفتها “جسور التطبيع” التي تمنح إسرائيل شرعية رمزية دولية.وفي السياق الهولندي تحديدا، شهدت الأشهر التي سبقت قرار المهرجان تصاعدا كبيرا في حملات المقاطعة الثقافية، التي وقعها آلاف الفنانين والأكاديميين الأوروبيين، مطالبين المؤسسات الفنية بقطع علاقاتها مع الكيانات الإسرائيلية المدعومة حكوميا.طلاب ونشطاء في جامعة أمستردام يعززون حاجزا رمزيا أمام مدخل الجامعة في 7 مايو 2024، تضامنا مع غزة، ورفضا للتواطؤ الأكاديمي مع إسرائيل. مشهدٌ يذكّر بانتفاضات الستينيات، حين كان الاحتجاج يبدأ من الجامعة، ثم يمتد إلى المجتمع. هنا، تتجسد عودة الأخلاق إلى الفضاء الأوروبي، حيث يصبح العلم والمعرفة جزءا من معركة الوعي الإنسانيما ميّز هذه الموجة عن سابقاتها، هو تحولها من حملات هامشية إلى ضغط مؤسسي منظم. فقد استطاعت الحركة تأطير المسألة، لا أنها موقف سياسي بل “التزام أخلاقي مهني”، مستفيدة من السوابق التي وضعتها المؤسسات الأوروبية نفسها، عند مقاطعة روسيا بعد غزو أوكرانيا.هذا التأطير جعل تبرير الازدواجية عسيرا على المهرجانات: فلماذا تُقاطع موسكو ولا تُقاطع تل أبيب؟وفي حالة “إدفا” تحديدا، كانت ضغوط المخرجين الفلسطينيين والعرب مفيدة، فقد هددوا بمقاطعة جماعية للمهرجان، إذا ما استمر تجاهله لمطالبهم، وكان لذلك دور حاسم في دفع الإدارة لاتخاذ موقف واضح.ثم إن انضمام شخصيات سينمائية مرموقة أوروبية وأمريكية إلى الحملة، أعطاها ثقلا فنيا، يتجاوز الخطاب السياسي المباشر.وبهذا، أصبحت حركة المقاطعة الثقافية قوة ضاغطة لا يمكن تجاهلها، قادرة على تحويل المؤسسات الفنية من مساحات “محايدة” مفترضة، إلى ساحات لممارسة المساءلة الأخلاقية.ولم يكن قرار “إدفا” منحة طوعية، بل استجابة محسوبة لتراكم ضغوط داخلية وخارجية، جعلت التعامل مع المؤسسات الإسرائيلية أعلى تكلفة بكثير من تكلفة المقاطعة.الانقسام السياسي: من الشارع إلى قاعة الحكومةلم يقتصر التحول في الموقف الهولندي على الشارع، بل امتد ليهز أركان المؤسسة السياسية نفسها، فقد شهدت الحكومة أزمة داخلية حادة حول الموقف الرسمي من الانتهاكات الإسرائيلية في غزة، بلغت حد استقالة بعض الوزراء احتجاجا على تردد الحكومة في اتخاذ موقف واضح.وقد كشف هذا الانقسام صراعا عميقا، بين التزامات هولندا التاريخية تجاه إسرائيل، ومبادئها الإنسانية المعلنة.تحت قبة البرلمان الهولندي، احتدم الجدل حول الموقف من الحرب على غزة، فاستقال وزراء، وحدث انقسام علني في الحكومة. هذا المشهد السياسي كشف التحول العميق في المزاج الهولندي، من صمت دبلوماسي إلى مساءلة أخلاقية. أصبحت قاعة التشريع مرآة للشارع، فلم يعد الدعم لإسرائيل سياسة تلقائية، بل عبئا أخلاقيا يُراجع تحت ضغط الرأي العاموامتد هذا الجدل إلى الساحة الثقافية، فقد أثارت مشاركة إسرائيل في مسابقة “يوروفيجن” للأغاني -وهي من أبرز الأحداث الثقافية الأوروبية- موجة اعتراضات كبيرة في هولندا، فقد طالبت أصوات كثيرة -من نشطاء وفنانين وسياسيين- باستبعاد إسرائيل من المسابقة، في موازاة ما حدث مع روسيا بعد غزوها لأوكرانيا.لوحت أيرلندا وهولندا وإسبانيا وسلوفينيا بالانسحاب من يوروفيجن 2026 إذا شاركت إسرائيل، وهي مسابقة غنائية دولية تُقام كل عام أساسا في دول أوروبية، وتُنقل تلفزيونيا. بدأت عام 1956، وتعد من أطول الفعاليات التلفزيونية غير الرياضية عمرا، وأكثرها مشاهدة في العالمومع أن هذه المطالب لم تتحقق على مستوى المسابقة الرسمي، فإنها عكست حالة الغليان الشعبي والسياسي، التي أصبحت تحكم العلاقة الهولندية بإسرائيل.كانت هذه الضغوط المتراكمة -من الشارع، ومن داخل الحكومة، ومن المجتمع الثقافي- هي التي مهدت الطريق أمام مؤسسات ثقافية مثل “إدفا”، لاتخاذ قرارات حاسمة، من دون أن تخشى عزلة سياسية.مشاركة الدول العربية في مسابقة يوروفيجن نادرا جدا، فقد شارك المغرب مرة واحدة عام 1980، وكانت تلك المشاركة الوحيدة التي ظهرت فيها أغنية عربية في المسابقة. أما تونس ولبنان فانسحبا عامي 1977 و2005، بعد رفضهما بث محتوى إسرائيليالسياق الهولندي: بين تراث التسامح والمحنة الأخلاقيةلفهم عمق التناقض الذي تعيشه هولندا، وقرار “إدفا” الناتج عنه، لا بد من العودة إلى الذاكرة التاريخية الهولندية، فبعد طرد اليهود من إسبانيا عام 1492، كانت هولندا من الدول التي احتضنتهم، وشكلوا جزءا من نسيجها الاجتماعي والثقافي.كان الفيلسوف اليهودي “باروخ سبينوزا” أحد أبرز مفكري التنوير الأوروبي، وقد عُرف بكونه نتاجا لهذا التسامح الهولندي، ثم إن تاريخ البلاد المنخفضة يحفظ لليهود مقاومتهم للغزو الإسباني لبلادهم، وقد تعزز هذا التراث في الحرب العالمية الثانية، حين شكل الهولنديون شبكة مقاومة لإنقاذ اليهود من النازية، ولا يزال متحف “آنا فرانك” في أمستردام شاهدا حيا على هذا الإرث.متحف آنّا فرانك في أمستردام، رمز الذاكرة الأوروبية للمأساة اليهودية، وقد أصبح في النقاشات الهولندية مرآة أخلاقية معكوسة. فالسردية التي احتفت بالمقاومة في وجه النازية باتت تُستدعى للمقارنة مع مأساة غزة، فتُستخدم مفارقة التاريخ لتذكير أوروبا بأن الضحية القديمة قد تصبح جلادا، وأن العدالة لا تُورّث، بل تُمارس كل يوم بمعايير إنسانية متجددةلكن اليوم، تجد هولندا نفسها في مأزق أخلاقي عميق، فكيف توفق بين هذا التراث الإنساني، الذي يدعو للتسامح مع اليهود لكونهم ضحايا تاريخيين، وبين الوقوف مع الفلسطينيين الذين هم ضحايا راهنون؟برز هذا التناقض بروزا صارخا في أكتوبر 2025، حين رفضت بلديات هولندية عدة رفع العلم الإسرائيلي في مباريات كرة القدم بأمستردام وروتردام، مع أنه علم دولة عضو في الأمم المتحدة.بل إن أمستردام طلبت من الاتحاد الأوروبي لكرة القدم عدم رفع العلم، خشية ردود فعل جماهيرية غاضبة، وذلك دليل على أن الرأي العام الهولندي لم يعد يفصل بين إسرائيل الدولة، وبين سياساتها في غزة.هذه الأزمة الأخلاقية، بين الوفاء لتاريخ التسامح والالتزام بالعدالة الإنسانية الراهنة، هي التي تفسر قرار “إدفا”.فهذا المهرجان الذي يعمل في قلب أمستردام ويعكس قيمها، وجد نفسه مضطرا لاختيار موقف واضح، إما أن يبقى أسير التاريخ ويتجاهل الحاضر، أو يعيد تعريف معنى التسامح والإنسانية في ضوء الواقع الفلسطيني، فكان الانتقال من توازن اتصالي معلن إلى سياسة معيارية، تستبعد المؤسسات الممولة حكوميا. وذلك مخرج ذكي.علم فلسطين مرفوع في قلب أمستردام، وسط تجمع تضامني شهدته ساحة دام. يرمز هذا المشهد إلى استمرار الحراك الشعبي في المدن الأوروبية دعما للقضية الفلسطينية، ورفضا للعدوان على غزة، فقد غدت ألوان العلم الفلسطيني جزءا من المشهد اليومي في شوارع أوروبا الداعية للعدالة والسلامبين تراث هولندي شيّد سمعته على التسامح، وراهن يضع مؤسساته أمام مساءلة أخلاقية حادة، يجيء قرار “إدفا” ليؤكد أن الذاكرة لا تعفي من الواجب، وأن الفن ليس بمنأى عن السياسة، حين يتعلق الأمر بمال عام ومعيار عدالة.قرار 2025: من الحياد إلى المقاطعةتحت قيادة مديرته الفنية الجديدة “إيزابيل أراتي فرنانديز”، اتخذ المهرجان خطوة حاسمة في أكتوبر 2025، فقد نشرت مجلة “فارايتي” السينمائية في 27 أكتوبر، أنه أعلن رفض منح الاعتماد للمؤسسات التي تتلقى تمويلا من الحكومة الإسرائيلية، وشمل ذلك مؤسسات بارزة، منها مهرجان “دوك أفيف”، وسوق الإنتاج المشترك “كوبرو”، وهيئة البث العامة “كان”.“إيزابيل أراتي فرنانديز”، المديرة الجديدة لمهرجان أمستردام الدولي للأفلام الوثائقية “إدفا”، لحظة إعلان السياسة الجديدة التي استبعدت المؤسسات الإسرائيلية الممولة حكوميا عام 2025. تمثل “إيزابيل” جيلا مؤسسيا يرى أن الفن لا يمكن أن يكون محايدا أمام الإبادة، وأن المهرجان يجب أن يكون منبرا للضمير العالمي، لا منصة لتوازنات شكلية تُخفي التواطؤ تحت شعار الشموليةوفي بيان رسمي نشره المهرجان على موقعه الإلكتروني في 20 أكتوبر 2025، بررت الإدارة القرار بأنه تطبيق لإرشاداتها القائمة، التي تمنع التعامل مع حكومات ضالعة في “انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان”، وأنها طبقت سياسات مماثلة على مؤسسات من روسيا وإيران. كما أعلن المهرجان في نفس البيان انضمامه رسميا إلى حملة المقاطعة الثقافية الهولندية والبلجيكية ضد إسرائيل.يمثل هذا القرار تحولا من “المعيار الفكري” الذي طُبق على روسيا، حيث يُقبل المخرجون بشرط نقدهم الصريح للحرب، إلى “معيار مالي” صارم طُبق على إسرائيل، فتُستبعد المؤسسات بناء على مصدر تمويلها، بغض النظر عن محتوى أعمالها النقدي.في قاعة عرض من قاعات “إدفا” التاريخية، يجتمع الجمهور الهولندي لمشاهدة أحد الأفلام المشاركة في الدورة الماضية. مشهد بسيط لكنه يجسّد جوهر المهرجان؛ السينما فضاء اجتماعيا للحوار لا للاستهلاك. فبين مقعد ومقعد تتكوّن شبكة وعي جماعي، تذكّر بأن الوثائقي ليس ترفا فنيا، بل تمرين دائم على رؤية الذات والعالم بعيون جديدةيثير هذا التناقض جدلا حول مدى اتساق المهرجان، فبينما يرى المؤيدون أن كل تمويل حكومي إسرائيلي هو شكل من أشكال التطبيع مع الاحتلال، يرى المعارضون أن القرار يضر بالأصوات النقدية في إسرائيل.وفي تصريحات لمجلة “فارايتي”، قالت “ميشال فايتس”، مديرة مهرجان “دوك أفيف”، إن مؤسستها مستقلة تعرض أفلاما شديدة الانتقاد للحكومة والاحتلال، وإن هذا القرار يقوض الجسور بين الفلسطينيين والإسرائيليين. ثم قالت:لسنا ديكتاتورية بعد،
لا نزال دولة ديمقراطية،
لسنا مثل روسيا.سابقة ثقافية في زمن الاستقطابإن قرار مهرجان “إدفا” عام 2025 هو أكثر من مجرد موقف سياسي، إنه يمثل لحظة فارقة في تاريخ المؤسسات الثقافية الغربية، وعلاقتها بالصراع العربي الإسرائيلي.لقد اختار المهرجان التخلي عن حياده الهش، والانحياز لضغوط حركات المقاطعة والرأي العام الأوروبي المتغير، وفي هولندا تحديدا يمثل ذلك محاولة لإعادة تعريف تراث التسامح، فلم يعد يعني الوقوف مع الضحايا التاريخيين فقط، بل يشمل أيضا مساءلة من تحولوا من ضحايا إلى جلادين.مشهد من إحدى قاعات “إدفا” خلال عرض فيلم “شهود بوتين”، في نقاش يعكس تداخل الفن بالسياسة العالمية. منذ أزمة أوكرانيا، بات المهرجان يواجه أسئلة تتجاوز الشاشة: كيف تتعامل السينما الوثائقية مع السلطة من دون أن تُستغل؟ هنا يتجلى دور “إدفا” الحقيقي بصفته مختبرا أخلاقيا، يوازن بين حرية التعبير ومساءلة القوة بالصورة والكلمةوبهذا، وضع “إدفا” سابقة قد تتبعها مهرجانات ومؤسسات فنية أخرى، مما يعكس تزايد نفوذ المجتمع المدني في تشكيل السياسات الثقافية. في نهاية المطاف، يكشف هذا التحول المعضلة العميقة التي تواجهها المؤسسات الفنية في عصر الاستقطاب الحاد: فهل دورها توفير منصة محايدة لكل الأصوات، أم أن عليها استخدام قوتها الرمزية لاتخاذ موقف أخلاقي واضح؟لقد قدم “إدفا” إجابته، وستتردد أصداؤها في عالم السينما الوثائقية وخارجه لسنوات قادمة.
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه




