بقلم نور الحسن، الرئيسة التنفيذية لشركتي Arabic.AI وTarjama
لا يفتقر الشرق الأوسط إلى رأس المال، بل إلى طريقة واضحة لاستخدامه. تجارب مثل Careem وTabby وTamara وJahez وTalabat وNoon وProperty Finder وAramex تُظهر أن شركات كبيرة يمكن أن تنشأ من داخل المنطقة وتنافس عالميًا. هذه التجارب لا تعني فقط أن النجاح ممكن، بل تكشف فجوة أعمق: رأس المال المؤسسي في المنطقة—سواء الصناديق السيادية أو الجهات الحكومية أو المستثمرين الاستراتيجيين— لم يلعب بعد دورًا أساسيًا في دعم هذا النوع من النمو.
في دول الخليج وحدها، يتوفر نحو 4 تريليونات دولار من رأس المال المؤسسي. هذا الرقم لا يعكس وفرة مالية فقط، بل فرصة حقيقية لبناء قطاع ابتكار قوي ومستدام. والسؤال هنا ليس لماذا تتجه هذه الأموال إلى الخارج، بل كيف يمكن توجيه جزء منها لدعم شركات تقنية محلية تُعدّ ضرورية لمستقبل المنطقة، وقادرة في الوقت نفسه على تحقيق عوائد واضحة.
لماذا لا يصل رأس المال إلى الشركات؟
يمتلك الشرق الأوسط رأس مال مؤسسي يفوق بكثير ما تمتلكه أسواق أخرى. للمقارنة، بلغ حجم السيولة المتاحة لرأس المال المغامر في الولايات المتحدة 307.8 مليار دولار في عام 2024، ورغم ذلك واجهت السوق الأميركية صعوبات في استثمار هذه الأموال بكفاءة. المشكلة إذًا ليست في حجم رأس المال، بل في آليات العمل.
حاليًا، يوجّه المستثمرون المؤسسيون والجهات الحكومية والصناديق السيادية نحو 136 مليار دولار سنويًا إلى الأسواق العالمية، مقابل نسبة محدودة لا تتجاوز 10% تُستثمر داخل المنطقة. هذا التوجه لا يعني ضعف الثقة في الشركات المحلية، بل يعكس إدارة محسوبة للمخاطر. فالشركات العالمية تمتلك نماذج أعمال مجرّبة وشفافية أعلى ومسارات خروج أوضح.
لكن هذا المشهد بدأ يتغير. الشركات الإقليمية التي تنجح في التوسع لم تعد تجذب رأس المال المؤسسي بدافع الدعم أو التشجيع، بل لأن أرقامها منطقية ونماذج أعمالها تعمل، ولأنها تحل مشكلات لا تستطيع الشركات العالمية التعامل معها بنفس الكفاءة. تجارب مثل Careem وTabby وTamara وProperty Finder وTalabat تؤكد أن مؤسسين محليين قادرون على بناء شركات بمليارات الدولارات. هذه ليست حالات فردية، بل إشارات واضحة إلى أن توجيه رأس المال الإقليمي إلى الشركات المناسبة يمكن أن يحقق عوائد قوية، ويبني في الوقت نفسه قدرات محلية مستدامة.
في السعودية، ظهر هذا التوجه بالفعل عبر صندوق الاستثمارات العامة السعودي (PIF)، الذي دعم عشرات صناديق رأس المال الجريء من خلال مبادرات مثل Jada وSanabil. اليوم، تقف أسواق إقليمية أخرى، من بينها الإمارات، أمام فرصة مشابهة لتوسيع استثماراتها في قطاع بات أكثر نضجًا وجاهزية.
الخلاصة، ما تحتاجه المرحلة المقبلة ليس شهية استثمارية أكبر، بل نموذج يتيح مشاركة مؤسسية أعمق تواكب نضج السوق. وهذا يتحقق عندما تتحمل الدولة جزءًا من المخاطر—عبر آليات ضمان أو هياكل استثمار مشتركة—بما يفتح الباب أمام ضخّ أكبر لرأس المال المؤسسي في الشركات الإقليمية المؤهلة. هذه ليست سياسات دعم، بل قرارات استثمارية محسوبة تستجيب إلى تحديات اقتصادية حقيقية في المنطقة.
فجوة التقييم: كيف بدأت وكيف تضيق
عادةً ما تحصل الشركات الناشئة في وادي السيليكون على تقييمات أعلى من شركات مشابهة في الشرق الأوسط. السبب بسيط: هناك تاريخ أطول من النجاحات وصفقات خروج أكثر وبيانات أوضح تساعد المستثمرين على اتخاذ قراراتهم. المهم هنا ليس المقارنة، بل الاتجاه. مع تراكم قصص النجاح في المنطقة، تبدأ الثقة في الارتفاع، وتتحسن التقييمات تدريجيًا.
لا يُطلب من المستثمرين المؤسسيين سد فجوة التقييم بمفردهم، بل تسريع تقلصها. فعندما يستثمر صندوق مدعوم حكوميًا في شركة تكنولوجيا مالية Fintech في جولة Series C، أو عندما تدعم السياسات التنظيمية شركة تكنولوجيا مناخية على التوسع، تتحول هذه التجارب إلى نماذج يُبنى عليها. وهي تثبت أن الشركات الإقليمية قادرة على المنافسة عالميًا وتحقيق عوائد حقيقية.
في كل سوق متقدمة، يحدث الشيء نفسه: دخول رأس المال الكبير يطمئن المستثمرين الأصغر. والمؤسسات التي تستثمر اليوم في شركات عالمية تستطيع أن تلعب الدور نفسه داخل المنطقة، حين تنظر إلى الاستثمار المحلي باعتباره جزءًا من استراتيجيتها، لا استثناءً منها.
الولايات المتحدة ليست النموذج
في الولايات المتحدة، لا تحلّ الدولة محلّ رأس المال الخاص، بل تهيّئ الظروف لدخوله. برامج حكومية مثل SBIR وSTTR توفّر نحو 2 مليار دولار سنويًا في صورة تمويل لا يخفّف الملكية، ما يقلّل المخاطر أمام المستثمرين ويدفعهم إلى الاستثمار. وفي أوروبا، عمل برنامج Startup Nations على تنسيق السياسات بين 26 دولة ضمن إطار مشترك لخلق بيئة أكثر وضوحًا للشركات الناشئة. في الحالتين، لم يكن الهدف مزاحمة المستثمرين، بل توسيع دائرة الاستثمار وتقليل العوائق أمامه.
الشرق الأوسط مختلف. هنا يوجد رأس مال كبير ومركّز في أيدي مؤسسات واضحة. توجيه جزء صغير فقط من هذا المال نحو الابتكار المحلي يمكن أن يصنع فرقًا هيكليًا، لا مجرد دفعة تمويل مؤقتة.
ولا يدور الحديث هنا عن أموال تُوزَّع على الشركات بشكل عشوائي. المقصود هو رأس مال يُضخ عبر صناديق منظمة تُدار باحتراف ويُنتظر منها تحقيق عوائد مالية إلى جانب أثر إقليمي. وعندما تشارك جهات حكومية أو مؤسسات استراتيجية في الاستثمار إلى جانب صناديق رأس المال الجريء المحلية في شركات بمرحلة نمو، تقل المخاطر على السوق ككل. كل جولة Series B ناجحة تصبح دليلًا، كل عملية استحواذ تتحول إلى نموذج، وكل صفقة خروج تخلق رأس مال وثقة تمهّد للموجة التالية.
من أين ستأتي الوظائف؟
لا تزال بطالة الشباب في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من بين الأعلى عالميًا. ورغم أن السعودية نجحت في خفضها عبر تدخلات وسياسات محددة، فإن البطالة الهيكلية في المنطقة لن تُحلّ بمجرد استيراد منصات تكنولوجية جاهزة. الشركات العالمية تعمل بمنطق التوسع السريع وتعظيم الأرباح، لا بتشغيل أعداد كبيرة من الكفاءات المحلية.
الشركات الناشئة الإقليمية مختلفة بطبيعتها. شركة Fintech تُبنى في دبي، مثلًا، تفهم سلوك الدفع المحلي والعوائق التنظيمية وأنماط الاستخدام الثقافية، بطرق يصعب على المنصات العالمية تقليدها على نطاق واسع. والأهم أنها توظف محليًا مهندسن وفرق تشغيل ومصممين وموظفي دعم. وكل صفقة خروج ناجحة لشركة ناشئة تخلق عشرات—وأحيانًا مئات—الوظائف المباشرة، فضلًا عن وظائف أخرى غير مباشرة في سلاسل التوريد والخدمات.
ضخّ رأس مال كبير في الشركات الإقليمية خلال السنوات المقبلة يمكن أن يبني قاعدة من الشركات القادرة على التوسع في مجالات مثل التكنولوجيا المالية والخدمات اللوجستية والتكنولوجيا المناخية والحكومة الرقمية. هذا لا يساهم فقط في تقليل البطالة، بل يساعد أيضًا على بناء ملكية فكرية محلية وتطوير المواهب وتعزيز مكانة المنطقة في هذه القطاعات.
وعندما تدعم الحكومات والمستثمرون المؤسسيون الشركات المحلية، فهم لا يختارون بين العائد المالي والأثر الاجتماعي.، بل يختارون تحقيق الاثنين معًا.
كيف يصبح رأس المال جزءًا من النمو؟
التحول المطلوب ليس إقناع المستثمرين المؤسسيين بالانتقال من الاستثمار العالمي إلى المحلي، بل تصميم نموذج يجعلهم جزءًا ثابتًا من نمو السوق الإقليمي.
يمكن تحقيق ذلك عبر إنشاء صناديق نمو إقليمية بهياكل استثمار مشترك، تلتزم فيها الجهات الحكومية والمؤسسات بحصص استثمارية كبيرة، على أن تُستكمل بمساهمات من صناديق رأس المال الجريء المحلية والمكاتب العائلية. هذا النوع من الصناديق يوفّر تمويلًا واضحًا وقابلًا للتوسع لجولات Series A وSeries B، ويعالج الفجوة التي غالبًا ما تواجه الشركات بين المراحل المبكرة ومرحلة النمو.
كذلك، تحتاج السوق إلى مسارات خروج أوضح. عندما يرى المؤسسون فرصًا حقيقية للطرح العام أو الاستحواذ—عبر البورصات الإقليمية، أو مشترين مدعومين حكوميًا، أو صفقات استحواذ عابرة للحدود—تستقر التقييمات، وتبقى الشركات في السوق الإقليمي لفترة أطول. في المقابل، يحصل المستثمرون المؤسسيون على رؤية أوضح لمسارات الخروج، ما يحسّن حسابات العائد والمخاطر.
ويمكن للحكومات أن تلعب دورًا مباشرًا عبر المشتريات العامة. تخصيص نسبة—حتى لو صغيرة—من إنفاق القطاع العام على تكنولوجيا المعلومات والبنية التحتية لشركات ناشئة إقليمية مؤهلة يخلق إيرادات فورية لهذه الشركات. هذا الشكل من الدعم هو عمليًا رأس مال مباشر، وغالبًا ما يكون أقوى من المنح، لأنه يسرّع الوصول إلى الربحية.
وأخيرًا، من الضروري تحديد القطاعات الاستراتيجية بوضوح. لا تحتاج المنطقة إلى دعم كل شيء. التكنولوجيا المالية والتكنولوجيا المناخية والتكنولوجيا الزراعية والحكومة الرقمية وبنية الذكاء الاصطناعي التحتية هي مجالات يمكن للشرق الأوسط أن يبني فيها ميزة تنافسية مستدامة. الوضوح هنا لا يشتّت الموارد، بل يركّزها، ويخلق خبرات متخصصة، ويتيح تحقيق عوائد قابلة للتكرار.
الذكاء الاصطناعي يضغط الدورات الاقتصادية ويُسرّعها. المناطق التي تبني منصاتها الخاصة اليوم ستملك إنتاجية الغد وقدرًا أكبر من الاستقلال. الاكتفاء باستيراد أدوات الذكاء الاصطناعي يعني ترسيخ الاعتماد الخارجي في مجالات حساسة مثل التمويل والعدالة والتعليم والحوكمة.
تحديات المناخ والغذاء في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ليست هامشية، بل وجودية. شركات التكنولوجيا المناخية والزراعية العالمية لن تصمم حلولها وفق قيود المنطقة وواقعها. المؤسسون المحليون وحدهم قادرون على ذلك، ولدى المستثمرين المؤسسيين أسباب مالية واستراتيجية واضحة لدعمهم.
قطاع التكنولوجيا المالية يشهد زخمًا، لكنه من دون بنية تحتية مناسبة وشراكات بيانات ودخول مؤسسي حقيقي سيظل محدود الانتشار. وعندما يُبنى على أسس أقوى، يصبح قابلًا للتوسع خارج المنطقة. أما توظيف الشباب، فيقترب من نقطة حرجة. من دون خلق فرص عمل قابلة للتوسع الآن، ستزداد الضغوط الاجتماعية. وتبقى الشركات الناشئة من بين الأدوات القليلة القادرة على خلق وظائف معرفية على نطاق واسع. هذا ليس ترف ابتكار، بل حاجة اقتصادية ملحّة.
خمس خطوات واضحة
القضية ليست إبعاد المؤسسات عن الفرص العالمية، بل ترتيب الاستثمار داخل المنطقة بطريقة تحقق عائدًا ماليًا، وفي الوقت نفسه تعالج مشكلات حقيقية. ويمكن تلخيص ذلك في خطوات عملية ومباشرة:
تخصيص جزء فعلي من الاستثمارات المؤسسية السنوية لصناديق رأس المال الجريء وصناديق النمو الإقليمية، ضمن أطر واضحة للحوكمة والمساءلة.
تصميم مسارات خروج واضحة بالتعاون مع البورصات والجهات التنظيمية، بحيث تصبح فرص السيولة واضحة ويمكن إعادة تدوير رأس المال.
استخدام ضمانات حكومية لتقليل المخاطر وفتح المجال أمام استثمارات أكبر.
خلق طلب حقيقي من خلال المشتريات الحكومية.
التركيز على قطاعات محددة تمتلك فيها المنطقة فرصة واقعية للمنافسة عالميًا.
النتيجة هنا ليست طموحًا نظريًا، بل مسارًا عمليًا: رأس المال يموّل المؤسسين، والمؤسسون يوسّعون شركاتهم، والشركات تخلق وظائف، وصفقات الخروج تعيد ضخ رأس المال من جديد، فتتراكم المنظومة وتكبر.
الشرق الأوسط يملك المال ويملك الكفاءات ويعيش لحظة ضغط حقيقية. ما ينقصه اليوم هو البنية التي تربط هذه العناصر ببعضها. المستثمرون المؤسسيون ليسوا عائقًا أمام بناء منظومة الابتكار، بل عنصرها الأساسي. فرأس المال موجود والشركات جاهزة والكفاءات حاضرة. المتبقي هو تصميم الهياكل التي تسمح لهذا كله أن يعمل معًا—والاعتراف بأن دعم الشركات المحلية ليس خيارًا عاطفيًا، بل قرار اقتصادي سليم وضرورة استراتيجية في الوقت نفسه.
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه
اقرأ أيضاً





