مثلث الحب عند المخرجة سيلين سونغ.. من الحنين في فيلم “حيوات سابقة” إلى سوق العاطفة في فيلمها”ماديون”

يحتل مثلث الحب مكانة مركزية في أفلام المخرجة سيلين سونغ، لكنه لا يظهر بوصفه لعبة درامية تقليدية هدفها إثارة الغيرة أو دفع الشخصيات إلى مواجهة مباشرة، بل كأداة تفكير: مرآة تعكس أسئلة أوسع من العاطفة نفسها. في فيلمها الأول “Past Lives”حيوات سابقة (2023) يصبح المثلث صراعا بين زمنين، وبين حيوات محتملة لم تتحقق.المخرجة والكاتبة الكورية-الكندية “سيلين سونغ” وُلدت في كوريا الجنوبية، ثم انتقلت إلى كندا قبل أن تبني مسارها الفني في نيويوركوفي فيلمها الثاني “ماديون “Materialists” (2025)”،يتخذ المثلث شكلا أكثر التصاقا بعصر الرأسمالية الحديثة، حيث لا يعود السؤال “من نحب؟” هو السؤال الوحيد، بل ينهض سؤال أشد قسوة: “بأي شروط يمكن أن نحب؟”بهذا المعنى، لا تقدم سونغ حكايات عن قلوب متنافسة بقدر ما تقدم تشريحا للعلاقة بين الحب وقوى أكبر منه: الزمن، الذاكرة، والاقتصاد الذي يفرض منطقه حتى على أكثر مناطقنا هشاشة.فيلم حيوات سابقة: مثلث الحب بوصفه امتحانا للزمن والاحتمالفي “حيوات سابقة” يتكون المثلث بين “نورا” الكورية وزوجها “آرثر” الأمريكي وحبيب طفولتها “هي-سونغ”. غير أن التوتر هنا لا يصنعه “المنافس” بقدر ما يصنعه الزمن: الماضي الذي يطل بوعد لم يكتمل، والحاضر الذي يفرض التزاماته، والمستقبل الذي يذكرنا بأن كل اختيار هو في الوقت نفسه خسارة لنسخة أخرى من حياتنا.الملصق الدعائي لفيلم “حيوات سابقة”. قصة الفيلم مستلهمة من تجربة شخصية في حياة مخرجته، سيلين سونغ، إذ كتبت السيناريو انطلاقا من موقف جمعها في حانة بنيويورك بين زوجها الأميركي وحبيب طفولتها الكوري، وما فتحه ذلك من أسئلة عن الهوية والزمن والحب. ومع أن الفيلم شديد القرب من سيرتها، تؤكد سونغ أنه ليس نسخة حرفية من حياتها، بل تحويل فني لتجربة ذاتية إلى حكاية سينمائيةقوة الفيلم أنه يرفض الإثارة السهلة. لا يشيطن الزوج، ولا يمجد الحبيب القديم، ولا يدفع بطلة القصة إلى قرار صاخب يرضي توقعات الدراما الرومانسية. بدلا من ذلك، يشتغل الفيلم على الفواصل الدقيقة: الصمت الذي يعادل اعترافا، والنظرة التي تختصر تاريخا، والجملة التي تأتي متأخرة قليلا كما لو أن اللغة نفسها تعجز عن ملاحقة ما نشعر به.لقاء واحد في نيويورك يجمع نورا بين زوجها آرثر وحبيب طفولتها هي-سونغ، فتغدو النظرات ابلغ من الكلام، ويقف القلب بين حاضر اختاره وماض لم يكتملحتى حين تبدو العلاقات مستقرة، تتسلل الأسئلة: هل كان يمكن أن تكون الحياة مختلفة لو لم نفترق؟ وهل الحب هو ما يحدث فعلا، أم ما نتخيله كان يمكن أن يحدث؟ هنا يتحول مثلث الحب إلى طريقة للتفكير في الزمن نفسه، وفي معنى أن نختار حياة ونخسر أخرى.فيلم ماديون: مثلث الحب حين تتحول العاطفة إلى معادلةفي ماديون تضع سونغ بطلتها “لوسي” (تؤديها “داكوتا جونسون”) بين علاقة قديمة لم تندمل جراحها وحياة جديدة تدار وفق منطق السوق والنجاح. ومن خلال المثلث الذي يحيط بها، لا يكتفي الفيلم بتأمل الندم والحنين، بل يدخل إلى منطقة أكثر راهنية: الحب كصفقة، والعلاقة كمشروع، والشريك بوصفه “قيمة” قابلة للقياس.هل الرومانسية المغايرة محكوم عليها بالفشل، وهل الكوميديا الرومانسية نفسها كذلك؟ يطرح فيلم ماديون للمخرجة سيلين سونغ هذين السؤالين بخفة ومكر. تدور الاحداث في نيويورك، حيث تؤدي داكوتا جونسون دور “لوسي”، خاطبة محترفة ترى الحب كصفقة، قبل ان تنقلب حياتها حين تنجرف عاطفيا نحو رجلين: “جون” الوسيم المفلس (كريس إيفانز)، و”هاري” المترف كاليخت الفاخر (بيدرو باسكال)لوسي تعمل وسيطة زواج في نيويورك، أي في مدينة تصنع من كل شيء سوقا، حتى من اللغة التي نصف بها أنفسنا. داخل هذا العالم، تصبح المواعدة أقل شبها بالمغامرة وأكثر شبها بعملية فرز: قائمة معايير جاهزة، “تشيك بوكس” لاختبار الملاءمة، ووعود بالاستقرار مقابل شروط واضحة. ما يبدو في ظاهره اختيارا حرا، يتحول تدريجيا إلى انضباط داخلي: أن تتعلم كيف تقدم ذاتك كمنتج، وكيف تتفاوض على مشاعرك كما تتفاوض على راتب.المخرجة “سيلين سونغ” ، والممثل “كريس إيفانز” ، والممثلة “داكوتا جونسون”، في موقع تصوير فيلم “ماديون”، وذلك يوم “31 مايو 2024” ، في “مدينة نيويورك”المفارقة أن هذا المنطق قد ينجح في تقليل الخسائر، لكنه يفشل في تفسير الشيء الوحيد الذي يجعل الحب حقيقيا: عنصر المفاجأة، الارتباك، وعدم القدرة على السيطرة. فالحب، في جوهره، مخاطرة لا يمكن تأمينها بالكامل. وحين نحاول جعله “آمنا” تماما، نخسره من حيث لا ندري. حين يصبح الإنسان “قابلا للاستبدال”يتقاطع هذا العالم مع ما يطرحه إريك فروم في “فن الحب”: في المجتمعات الرأسمالية الحديثة، قد يتحول الحب إلى علاقة تقوم على المنفعة والمقايضة، وتتشكل وفق معايير جاهزة، بحيث يغدو الإنسان سلعة داخل “سوق” كبير للعلاقات. داخل هذا المنطق، تصبح “أنا أحبك” معرضة لأن تنزلق من معناها الإنساني إلى معنى آخر أكثر برودة: “أحب ما تمنحني إياه من شعور بالقيمة”.فيلم “ماديون”، الذي كتبته سونغ وأخرجته، يستلهم بدوره تجربة قصيرة عاشتها حين عملت خاطبة في نيويورك. غير أن زبائن “لوسي”، بقوائمهم الصارمة وشروطهم الجاهزة، يبدون كأنهم التجسيد الحي للمنطق الاستهلاكي الذي تضخه تطبيقات المواعدة في العلاقاتوهنا تبرز إحدى أفكار فيلم ماديون عن بطله”Materialists” الأشد إيلاما: وفرة الخيارات لا تعني وفرة الحب. بل قد تعني، paradoxically، هشاشة الالتزام، لأن وجود البدائل على بعد نقرة يجعل الآخر أقل فرادة وأكثر قابلية للاستبدال. وعندما تغدو العلاقة قابلة للانسحاب السهل، قد يبدو ذلك راحة، لكنه في العمق يفرغ التجربة من اختبارها الحقيقي.اشترك فيالنشرة البريديةاشترك في النشرة البريدية وتابع أحدث أفلامنا الوثائقية “المخاطر الآمنة”: تطبيقات المواعدة كتمرين لا كحياةيحاول عالم المواعدة الحديث أن يقدم نسخة “مؤمنة” من الحب: علاقات قابلة للإدارة، حدود واضحة، وانسحاب بأقل خسائر ممكنة. هذا ما يمكن تسميته بـ”المخاطر الآمنة”: أن نقترب من الحب من دون أن نسقط فيه فعلا، وأن نختبر الإحساس به من دون أن ندفع ثمنه.في “ماديون”، تلتقي لوسي، الخاطبة النيويوركية، بالشاب الغني هاري في حفل زفاف، وتبدأ رقصة تبدو خفيفة لكنها محملة بحسابات خفية؛ بين الموسيقى والابتسامات تلمع الرفاهية كإغواء صامت، فتجد نفسها ممزقة بين السحر والاستسلام لمنطق السوق، كأن رقصة واحدة تكشف سؤال الفيلم كله: هل يمكن للحب أن يبقى نقيا حين يصبح الثراء جزءا من المعادلة؟لكن ما يفضحه الفيلم، عبر تجربة لوسي وعملها، أن الأمان هنا ليس بريئا. إنه يحقق نفسه على حساب جوهر التجربة العاطفية: العمق، الصدق، والتعقيد الذي لا يمكن اختزاله إلى قائمة شروط. فالشيك بوكس، مهما بدا عقلانيا، لا يضمن إنسانية العلاقة، بل قد يتحول إلى “فلترة” للرغبات أكثر من كونه بحثا عن شراكة حقيقية. نيويورك: مدينة كانت تعد بالحب… ثم صارت تختبرهلطالما ارتبطت صورة نيويورك الرومانسية في السينما بما قدمه وودي آلن في أفلام مثل “Annie Hall” و”Manhattan” و””، حيث بدت المدينة فضاء للحب والقلق والبحث عن معنى.فيلم “هانا وأخواتها” دراما عائلية شديدة الوقع عن ثلاث شقيقات متباينات جدا، لكنهن يعتمدن عاطفيا بعضهن على بعض بخيوط خفية لا تنقطع، مهما تباعدت الخيارات وتشعبت الطرق. صدر الفيلم عام 1986، وهو من تأليف وإخراج وودي آلن، ونال جوائز “أوسكار” (حصد ثلاث جوائز: “أفضل ممثل مساعد”، و”أفضل ممثلة مساعدة”، و”أفضل سيناريو أصلي”)ثم جاءت أفلام التسعينيات، مع نبرة أكثر حنانا وألفة، لتجعل الشوارع والمقاهي مساحات للمصادفات واللقاءات.لكن نيويورك عند سيلين سونغ ليست صورة واحدة. في “Past Lives” تبدو المدينة مساحة للذاكرة: مكانا يتيح للشخصيات أن ترى حياتها من الخارج، وأن تفهم ما كان يمكن أن يحدث.يرتكز “حيوات سابقة” على مفهوم كوري اسمه “In-Yun”، يرى أن الصلة بين شخصين في هذه الحياة ليست مصادفة محضة، بل امتداد لتلاقيات سابقة عبر حيوات أخرى. لكن المفارقة أن الفيلم الذي يحكي عن هذا الخيط القدري منح سيلين سونغ خيطا جديدا لحياتها هي أيضا؛ تقول: “كنت أصنع فيلما عن لحظة اكتشاف الذات، وفي الوقت نفسه كنت أخوض اكتشافي لذاتي وأنا أحولها إلى فيلمأما في “Materialists” فتظهر نيويورك كقلب للرأسمالية الحديثة: مدينة تمنح الرفاهية والمكانة لبعض سكانها، وفي الوقت نفسه تسحق آخرين تحت كلفة العيش ومطالب النجاح ومعايير “الجدارة” الاجتماعية.المخرجة سيلين سونغ توجه الممثلة داكوتا جونسون في موقع تصوير فيلم “ماديون” داخل حي ترايبيكا في مانهاتن، بمدينة نيويورك. الولايات المتحدةبهذا التوتر، تصبح المدينة شريكا في المثلث لا خلفية له: طرفا يضغط على العلاقات ويمتحنها. الحب هنا لا يعيش في فراغ، بل في اقتصاد يحدد الإيقاع، وفي واقع مادي يحاصر الاحلام. من “من نحب؟” إلى “كيف ننجو بالحب؟”ما تفعله سيلين سونغ في الفيلمين ليس إعادة تدوير لمثلث الحب، بل إعادة تعريف لوظيفته. في “Past Lives” يتجسد المثلث بوصفه وجعا زمنيا: حسرة على احتمالات ضاعت، ووعي بأن الحياة سلسلة من اختيارات لا تعود. وفي “Materialists” يصبح المثلث مرآة لعصر يحاول تحويل كل شيء إلى معيار: حتى ما لا يقبل القياس.من اليسار الى اليمين، عضوة لجنة التحكيم سيلين سونغ، وعضو لجنة التحكيم حسين فهمي حاملا جائزة التكريم، وعضوا لجنة التحكيم كريم عينوز وجوليا دوكورنو، خلال حفل الافتتاح ضمن فعاليات الدورة الثانية والعشرين من مهرجان مراكش الدولي للفيلم، يوم 28 نوفمبر 2025، في مراكش بالمغرببين الأمان المادي الذي يعد بالاستقرار، والحب الذي يعد بالمعنى، تضعنا سونغ أمام سؤال قديم يتجدد بأقسى صياغة: هل نختار ما يحفظ بقاءنا، أم ما يوقظ قلوبنا؟ وربما الأشد إزعاجا: هل يمكن أن نفعل الأمرين معا من دون أن نفقد أنفسنا؟
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه
اقرأ أيضاً




