يزحف الفجر على الغيطان مترددا، ويعلو سطح الأرض ضباب خفيف، ويرتفع صوت مؤذن، يمتزج مع صياح الديك، ثم نسمع وقع خطوات حافية في الأرض الطينية، فتظهر عزيزة (الممثلة فاتن حمامة) بثوب رمادي يغمره الطين حتى الركبتين، نصف وجهها في الضوء ونصفه في الظل، كأنها تمشي بين عالمين. تلاحقها كاميرا المخرج هنري بركات، وتتنفس معها.فيلم “الحرام” الذي شارك في مسابقة السعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي عام 1965اللقطة طويلة، تتحرك الكاميرا ببطء خلفها، وهي تنحني لقطف القطن، ثم ترفع رأسها إلى السماء، كأنها تدعو بالرحمة. لا صوت إلا همس الريح، ثم ترتفع موسيقى “أندريه رايدر” تدريجيا لتملأ الفراغ.تتوقف عزيزة فجأة، فتضع يدها على بطنها، وتنظر حولها، ثم تجلس إلى الأرض تتألم، والعالم من حولها صامت مثل سر قديم. تقترب الكاميرا ببطء من وجهها، فيظهر العرق والدمع والطين والضوء.اقرأ أيضا list of 3 itemslist 1 of 3فاتن حمامة.. السيدة التي هاودها الفن مغرما لا مرغماlist 2 of 3السينما المصرية.. الأدب والثقافة في خدمة الفنlist 3 of 3الواقعية في السينما المصرية ( 2- 2)end of listفي ذلك المشهد من فيلم “الحرام”، الذي تختلط فيه الطفلة بالمرأة، والأرض بالرحم، يعلن المخرج هنري بركات فلسفته، ويؤكد أن الخطيئة ليست سوى نتيجة طبيعية للظلم.كان هنري علامة فارقة في تاريخ السينما المصرية والعربية، جمع بين الحرفية العالية والشاعرية العميقة، فاتخذ الصورة قصيدة، والضوء لغة، والواقعية حالة وجدانية، يتماهى فيها المُشاهد مع أبطال الفيلم حتى آخر المشهد.لا تعد أفلام بركات مجرد تراث سينمائي، بل وثيقة اجتماعية وسياسية لقرن بأكمله من التحولات في مصر والعالم العربي. فقد أخرج أكثر من 65 فيلما على مدى 5 عقود، تعاون فيها مع كبار النجوم، مثل فاتن حمامة التي قدم معها 18 فيلما شكلت ملامح السينما الرصينة، وعبد الحليم حافظ وفرقة فريد الأطرش، وترك بصمته في كل نوع من أنواع الدراما.المخرج اللبناني المصري هنري بركات (1914-1997)ومن “دعاء الكروان” (1959)، الذي رشح لجائزة “الدب الذهبي” في مهرجان برلين السينمائي، إلى “الحرام” (1965)، الذي شارك في مسابقة “السعفة الذهبية” في بمهرجان كان السينمائي، قدم هنري بركات شهادة فنية عن الإنسان في مواجهة القهر والقدر.ولأنه كان يفضل أن يتحدث بالصورة لا بالكلمات، فقد ترك خلفه لغة كاملة من الضوء والظل، يمكن قراءتها واتخاذها وثيقة عن معنى الحرية في زمن صعب، فهو مخرج اتخذ السينما وسيلة للتفكير في الإنسان، لا للهروب من واقعه.لقد أصبح شاعر الصورة في زمن كان فيه الفن السابع ما يزال يبحث عن هويته، لكنه أصبح أحد أهم صُناعها ومن رسموا ملامحها في مصر، وقد قدم 65 فيلما في 5 عقود، منها الرومانسي والاجتماعي والتاريخي، وحملت بصماته البصرية التي جمعت بين الحس الإنساني ودقة البناء السينمائي.من القانون إلى الحكايةولد هنري بركات في 11 يونيو/ حزيران 1914 بحي شبرا في القاهرة لعائلة لبنانية مارونية، ثم درس الحقوق في جامعة القاهرة، ثم ترك المحاماة ولحق بإستوديو مصر في أواخر الثلاثينيات، وهو القرار الذي غير مسار حياته ومسار السينما العربية في آن واحد.اشترك فيالنشرة البريديةاشترك في النشرة البريدية وتابع أحدث أفلامنا الوثائقيةبدأ مسيرته مساعد مخرج مع توجو مزراحي وأحمد بدرخان، ثم قدم أول أفلامه مخرجا مستقلا “لو كنت غني” عام 1942، من إنتاج إستوديو مصر. ومع بساطة القصة، فقد لفت الأنظار إلى حسه الإنساني العالي وطريقته في بناء المشهد بالضوء لا بالحوار.تأثر هنري بالموجة الواقعية في السينما الأوروبية، لا سيما “جان رينوار” و”مارسيل كارنيه”، لكنه لم يستنسخها، بل صاغ منها ما يمكن تسميته “الواقعية الرقيقة”، وهي واقعية تعترف بالقسوة، لكنها تبحث عن الجمال فيها.ملصق فيلم “دعاء الكروان” (1959)، للمخرج هنري بركات، وقد رشح لجائزة “الدب الذهبي” في مهرجان برلينكان يؤمن أن السينما ليست نقلا للواقع، بل كشفا لروحه، وهو ما جعل أفلامه الأولى تحمل بصمات تختلف عما ساد حينها، ففي أعماله يرصد المشاهد لقطة طويلة تتنفس، وإيقاعا هادئا يتيح للمشاعر أن تتبلور، وصورة تفيض بالضوء الدافئ، الذي أصبح فيما بعد علامته الخاصة.ومنذ أفلامه الأولى، مثل “الحبيب المجهول” (1945) و”ياسمين” (1950)، ظهر وعيه المبكر بالمرأة بوصفها بطلة الحكاية، لا مجرد أثاث جميل، وهو ما مهد لعلاقته الإبداعية الطويلة مع فاتن حمامة لاحقا.هكذا خرج من قاعات المحاكم إلى قاعات العرض، ومن لغة القانون إلى لغة الحلم، فأصبح أحد أكثر المخرجين المصريين قدرة على صياغة العدالة إنسانيا لا قضائيا.الواقعية الرقيقة والشاعرية البصريةكان هنري بركات يرى الكاميرا أكثر من أداة تصوير، فكانت عنده “عينا تفكر”، كما وصفها مرة في حوار صحفي مع مجلة “الكواكب” عام 1964. كانت عدسته تتحرك ببطء، كمن يخشى أن يجرح المشهد باندفاعه، وتدار الإضاءة في أفلامه كأنها حوار خفي بين الضوء والعاطفة.وقد جعلت هذه العلاقة الحميمة بين الإطار والمشاعر النقاد يلقبونه “شاعر الصورة”، وهو وصف لم ينله أي مخرج عربي آخر بنفس الإجماع النقدي. ولعل عدم اهتمامه بالسياسة كزملائه من رواد الواقعية -مثل صلاح أبو سيف ويوسف شاهين– هو ما منحه مساحة خاصة، أبدع فيها مع الصورة والضوء، وطور لغته البصرية في علاقتها بما تعبر عنه من انشغالات إنسانية ومشاعر.المخرج هنري بركات بين الممثلين فريد شوقي وفاتن حمامةلم تكن الصورة عنده في أي مشهد خلفية للأحداث فقط، بل شخصية مستقلة تروي القصة، وفي “دعاء الكروان” (1959)، قدم الضوء بطلا روحيا، يدخل من بين الأشجار ليشهد على مأساة “آمنة” (الممثلة فاتن حمامة)، وهي تواجه الخطيئة والمجتمع.وفي المقابل، قدم في “الحرام” (1965) تجربة بصرية مدهشة، فصوَّر في الحقول مع لقطات الفجر والعرق والطيور، كأن الكاميرا تتنفس مع الأرض، وقد صُنف هذا الفيلم أحد أعظم أفلام الواقعية العربية.يقول الناقد الفرنسي “جاك شير” في مراجعته بمجلة “فارايتي” عام 1965: يحول هنري بركات الطين إلى لغة شعرية، يجعل العرق صلاة صامتة، والمأساة تأملا في معنى الحياة.وقد تميز بقدرته على تحويل الزمن السينمائي إلى زمن نفسي، فالإيقاع البطيء عنده ليس ترهلا، بل تواطؤ مع الإحساس، كأنه كان يمنح المشهد وقتا كافيا ليتكلم وحده، فيجعل الجمهور يشارك في الحزن والدهشة من دون افتعال.بهذه اللغة الخاصة، صاغ “الواقعية الرقيقة”، وهي واقعية لا تكتفي بكشف الفقر والظلم، بل تبحث عن جمال ما في أعماق الانكسار. ولعل ذلك ما جعله حتى اليوم من أكثر المخرجين العرب تأثيرا في أجيال لاحقة، مثل محمد خان وإيناس الدغيدي وخيري بشارة، الذين ورثوا عنه الإيمان بأن “الضوء يمكن أن يكون أصدق من الكلمة”.ثنائي مبهر مع فاتن حمامةإذا كان هنري بركات شاعر الصورة، فإن فاتن حمامة كانت موسيقاه، فلم تكن مجرد بطلة في أفلامه، بل صدى لرؤيته عن المرأة والإنسان، وفي 18 فيلما جمعتهما بين أواخر الأربعينيات والستينيات، وُلدت إحدى أعمق العلاقات الإبداعية في تاريخ السينما العربية، وهي علاقة لم تُبن على شهرة أو عقود إنتاج، بل على تفاهم جمالي وإنساني نادر.ففي فيلمي “الطريق المسدود” (1958) و”الباب المفتوح” (1963)، قدمت فاتن أدوار المرأة الواعية والايجابية، على عكس أدوارها السابقة التي جسدت فيها المرأة المنكسرة، فظهرت في الأول مدرّسة تقاوم مجتمعا يجرّم الاستقلال، وأصبحت في الثاني نموذجا للمرأة الثائرة سياسيا، التي ترفض السلطة الذكورية والوطنية في آن واحد.المخرج هنري بركات والممثلة فاتن حمامة أثناء تصوير فيلم “دعاء الكروان” (1959)يتجلى هنا ذكاء هنري بركات في توجيه الممثلة، فلم يكن يبحث عن الأداء الانفعالي، بل عن الصمت الذي يتكلم، وكانت نظرة واحدة من فاتن عنده أبلغ من حوار طويل.تقول فاتن حمامة في حوار نادر عام 1996: بركات لم يكن يوجهني بالكلمات، بل بالسكوت. كان يكتفي بنظرة كأنه يقول: افهمي المشهد من الضوء.وكان ذروة التعاون بينهما فيلم “الحرام” (1965)، وقد اختير للمشاركة في مهرجان كان السينمائي، وهو من أجرأ ما قدمته السينما العربية عن استغلال المرأة في الريف، فقد تخلت فاتن عن نجوميتها وأصبحت امرأة من الطين، وتخلى بركات عن الجماليات المصقولة ليقترب من الأرض نفسها.يقول الناقد الفرنسي “جاك شير” في مراجعته: نادرة هي اللحظة التي يلتقي فيها الإخراج بالتمثيل، ليصنعا معا قصيدة أخلاقية.. هنري بركات وفاتن حمامة فعلاها.ولم يكن ما يجمعهما هو الموهبة والاحتراف فقط، بل الإيمان المشترك بالإنسان، وقد وصفهما صلاح أبو سيف لاحقا بأنهما “وجهان لضمير واحد”، أحدهما يرى الحقيقة بالضوء، والآخر يعبر عنها بالملامح.ولهذا، فحين يذكر النقاد “المرأة في السينما المصرية”، فإنهم إنما يتحدثون عن امرأة هنري بركات، التي لا تستغل ولا تقدس، بل ترى وتسمع.ذاكرة الوجدان المصريأدرك هنري بركات من البداية أن السينما ليست مجرد حكايات، بل وثائق عاطفية للأزمنة، لذلك سجل بعدسته -منذ الأربعينيات حتى أواخر السبعينيات- ملامح التحول الاجتماعي في مصر من القرية إلى المدينة، ومن الحلم الملكي إلى الصدمة الجمهورية، ومن الطبقة الوسطى الناهضة إلى المواطن الذي يبحث عن ذاته في زحام السلطة. وبخلاف المخرجين السياسيين الصريحين، فقد اختار أن يسجل التاريخ من داخل العائلة والشارع والوجدان.ففي فيلمه “ياسمين” (1950)، الذي سبق ثورة يوليو 1952 بعامين، يقدم فتاة تعيش صراعا بين الفقر والكرامة، ولم يكن الفيلم سياسيا بالمعنى المباشر، لكنه وضع الأساس لخط اجتماعي طغى على أعماله اللاحقة، مؤداه أن الإنسان ضحية لبنية اجتماعية قاسية.زبيدة ثروت وعمر الشريف في فيلم “في بيتنا رجل” (1961)، للمخرج هنري بركاتأما بعد الثورة، وتحديدا في “حسن ونعيمة” (1959)، فقد أعاد صياغة التراث الشعبي في مواجهة التحديث القسري. فبينما كانت السينما الرسمية تروج للثورة مدينة فاضلة مثالية، قدم هو قصة حب تنتهي بالموت، ليقول بلغة الفن إن المجتمع الذي لا يرحم الفقراء لا يمكن أن يكون عادلا.كتب الناقد كمال رمزي في مجلة “الكواكب” عام 1965: أفلام هنري بركات ليست سياسية، لكنها أخطر من السياسة، لأنها تُري المواطن نفسه كما هو، بلا مكياج.وفي فيلم “الحرام” (1965)، المقتبس عن رواية يوسف إدريس، بلغت رؤية هنري بركات ذروتها، فالريف المصري هنا ليس خلفية للدراما، بل شخصية حية تنهض وتنهار، تتنفس وتئن.فالمشهد الذي تظهر فيه عزيزة (الممثلة فاتن حمامة) وهي تلد في الحقل، يختصر فلسفته كلها، إنها إنسان مسحوق تحت سلطة المجتمع، ومع ذلك يحتفظ بكرامته حتى اللحظة الأخيرة.وُصف هذا المشهد في مجلة “فارايتي” بأنه “من أكثر لحظات السينما العربية صدقا وإنسانية”، وقد أصبح نموذجا لما يسمى اليوم “الواقعية الأخلاقية”، وهي سينما تُدين العالم من دون أن تصرخ. وحين سئل في حوار عن موقفه من الرقابة، أجاب بهدوء: أنا لا أهاجم السلطة، أنا أريها ما تفعله بالناس.بهذه البساطة، اختصر فلسفة جيل كامل من السينمائيين، الذين فهموا أن الجمال يمكن أن يكون فعل مقاومة. فالإطار عنده لم يكن تجميلا للفقر ولا تبريرا له، بل محاولة لتذكير الناس بإنسانيتهم، وسط الصخب السياسي المتكرر، ولهذا ظلت أفلامه تُقرأ وثائق اجتماعية أكثر من كونها أعمالا ترفيهية.إنها ذاكرة بصرية لوجدان جمعي، لم يكتب بالحبر، بل بالضوء.من القاهرة إلى المهرجانات العالميةحين رحل هنري بركات عام 1997، كتب الناقد الراحل سمير فريد في جريدة “الأهرام الدولي”: هنري بركات لم يترك وراءه مجرد أفلام، بل مدرسة كاملة في كيفية النظر إلى الإنسان من الداخل.عبارة تختصر إرث رجل لم يبحث عن الضوء، بل صنعه، فمنذ أول أفلامه “شباب امرأة” (1956) حتى “ولا عزاء للسيدات” (1979)، ظل مخلصا لفلسفة واحدة، ألا وهي أن السينما وجدان قبل أن تكون حرفة، ولهذا لم يغب اسمه عن المهرجانات الدولية الكبرى، مع أنه لم يكن يسعى إليها قط.وقد شارك في مهرجان برلين السينمائي الدولي بفيلمه “دعاء الكروان” (1959)، فرُشح لجائزة الدب الذهبي، وهي أول مرة يرشح فيها فيلم مصري للجائزة منذ تأسيس المهرجان.كما اختير فيلمه “الحرام” (1965) لتمثيل مصر في مهرجان كان السينمائي، ليكون ضمن المسابقة الرسمية، وقد لفت الأنظار ببساطته الجمالية، التي قاربت السينما الإيطالية الجديدة في مقاربتها للفقر والكرامة.هنري بركات يتسلم جائزة الدولة التقديرية في الفنونوفي عام 1995، كرمه مهرجان القاهرة السينمائي الدولي بمنحه جائزة الدولة التقديرية في الفنون، تقديرا لإسهامه في صياغة الهوية البصرية للسينما المصرية.وقد أثر في أجيال متعاقبة من السينمائيين المصريين والعرب، فالمخرج الراحل محمد خان كان يرى أنه علمه “كيف تصمت الكاميرا لتتكلم الوجوه”، وقال خيري بشارة في حوار صحفي: من هنري بركات تعلمنا أن الواقعية ليست فقرا في الخيال، بل غنى في الإحساس.وربما كان أثره الأكبر أنه ترك وراءه سينما بلا زمن، فأفلامه ما زالت تعرض في دور السينما والفضائيات، وتحظى بتحليلات أكاديمية في جامعات القاهرة و”السوربون” و”بيركلي” ضمن مساقات “السينما العربية الكلاسيكية”.وما زال موقع “قاعدة بيانات الأفلام على الإنترنت” (IMDb) يصنف فيلميه “الحرام” و”دعاء الكروان” ضمن أفضل 100 فيلم عربي على الإطلاق. وقد أدرجه معهد الفيلم العربي ضمن “رواد الإنسانية في السينما العالمية”.وهكذا، يظل هنري بركات، بعد أكثر من ربع قرن على رحيله، المخرج الذي جمع بين الضوء والضمير، وبين الفن والإنسان، فحول السينما إلى شعر لا ينسى.
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه
اقرأ أيضاً





