متحف دير الزور.. ذاكرة الفرات المهدَّدة بين وزارة التنمية الإداريّة وإرث الحضارة

في قلب مدينة دير الزور، على ضفاف الفرات الذي حمل عبر آلاف السنين قصص الحضارات المتعاقبة، يقف مبنى ضخم، تحيط به حديقة وأشجار، ويضمّ ذاكرة لآلاف السنين، هو متحف دير الزور، أحد أضخم المتاحف السورية وأكثرها رمزية.
هذا المتحف لم يكن يومًا مجرد جدران وصالات عرض، بل ذاكرة حيّة تحتضن تاريخ الفرات الأوسط والجزيرة السورية، من حضارة ماري ودورا أوروبوس، إلى تل الشيخ حمد وقرى الصيادين الأوائل.
منذ وضع حجر أساسه عام 1980 وافتتاحه رسميًا عام 1996، ظل المتحف شاهداً على غنى المنطقة وتنوعها الثقافي، قاعاته صُممت بعناية لتحتوي القطع الأثرية التي استخرجتها البعثات الأثرية من وادي الفرات، في حين خصصت مستودعاته لأكثر من 70 ألف قطعة لم يُعرض معظمها بعد، وفي صالاته الواسعة تقف تماثيل ضخمة، ونُصُب ومجسمات تمثل الحياة اليومية والطقوس الدينية لأسلاف عاشوا هنا قبل آلاف السنين.
لكن هذا الصرح الثقافي بات اليوم مهدداً بفقدان جزء من دوره، بعد حديث عن خطط لتحويل أقسام منه إلى مكاتب تابعة لوزارة التنمية الإدارية، وصالات منه إلى صالات تدريب، ما أثار موجة قلق بين المختصين والمهتمين بالتراث.
متحف دير الزورخطوات مفاجئة وغياب للتنسيق
القصة بدأت حين زار محافظ دير الزور المتحف قبل أيام، بغية تخصيص بعض مكاتبه لوزارة التنمية الإدارية، وبعد أيام قليلة، زاره وزير التنمية الإدارية برفقة وفد رسمي للغرض نفسه، مع احتمال أنّ تكون صالات العرض ضمن خطة التحويل، وفقا لما نقله مصدر في دائرة الآثار لموقع تلفزيون سورويا، ما أثار الاستغراب أنّ كل هذه التحركات جرت من دون مراسلات رسمية مع وزارة الثقافة، الجهة المسؤولة عن حماية المتاحف، ومن دون أي خطاب رسمي موجه إلى دائرة الآثار والمتاحف بدير الزور، وفقا للمصدر.
وأكد المصدر في دائرة الآثار لموقع "تلفزيون سوريا" أنّ المتحف يخضع لاتفاقيات دولية تخص حماية التراث الثقافي والممتلكات المتحفيّة، وأي تدخل في بنيته أو وظيفته قد يعرقل خطط إعادة افتتاحه بعد سنوات من الإغلاق، مضيفاً أن القضية "لا تتعلق بعدد محدود من المكاتب، بل تصل إلى صالات عرض تضم تماثيل ضخمة لا يمكن تحريكها، ومجسمات أثرية بنيت القاعات أصلاً لتحتضنها".
قلق الناشطين ونداءات المجتمع المحلي
في مدينة دير الزور، يتحدث المختصون عن الأمر بقلق واضح؛ يقول الناشط في مجال التراث ياسر الشوحان، لموقع تلفزيون سوريا إن "المتحف هو ذاكرة المدينة"، مضيفًا أنّه إذا فقد المتحف قاعاته لصالح مكاتب إدارية، فلن يبقى أمام الأجيال المقبلة سوى مبنى فارغ بلا روح.
ويوضح الشوحان أنّ المتحف لم يكن فقط مخزنًا للآثار، بل منصة للتواصل بين المدينة والعالم، وتحويله إلى مكاتب للتنمية الإدارية لا يعد مجرد قرار محلي، بل يشكل خرقاً للاتفاقيات الدولية التي تنص على اعتبار المتاحف مراكز إشعاع ثقافي محمية بشراكات وتفاهمات مع مؤسسات ومعاهد عالمية، مثل معهد الآثار الألماني والمعهد الفرنسي للدراسات العليا في الآثار
ويؤكّد أن الدعم الألماني في تسعينيات القرن الماضي جاء عبر شركات كبرى، ما يعكس حجم الاهتمام العالمي بالمتحف، حيث ساهمت شركات عالمية مثل مرسيدس وسيمنس في دعمه، وشارك معهد الآثار الألماني والمعهد الفرنسي للأبحاث في تطوير برامجه، وكان المتحف رمزًا لانفتاح دير الزور على العالم.
ويشير الشوحان إلى أنّه، وبجهود فردية، كان وما زال يتواصل مع منظمات ثقافية تهدف إلى دعم المتحف وإعادة تأهيله، لذا يتساءل "ما الموقف الذي سنواجه به هذه الجهات الدولية إذا ما جرى تحويل المتحف إلى مكاتب إدارية؟"
البعد الدولي والالتزامات الأخلاقية
القضية، بحسب مهتمين بالتراث في دير الزور تحدث إليهم موقع تلفزيون سوريا، لا تتعلق بإدارة محلية فحسب، بل بالالتزامات الدولية التي وقّعت لحماية التراث السوري، فالمتاحف تُصنف عالميًا كمراكز إشعاع ثقافي، ويُنظر إليها على أنها جسور تربط الماضي بالحاضر وتُعزز الهوية.
يقول مصدر في دائرة الآثار بدير الزور: "حين تُحوَّل صالة عرض إلى مكتب إداري، لا نخسر بضعة أمتار مربعة، بل نخسر فكرة المتحف نفسها، نخسر وظيفته الأساسية كحاضن لذاكرة مشتركة".
تدمير ممنهج
بين عامي 2011 و2024 شهد متحف دير الزور تدميراً ممنهجاً أفرغه من دوره الثقافي، بعدما غادر موظفوه تحت ضغط الآلة العسكريّة للنظام البائد، ليتم تحويله إلى ثكنة عسكرية. هذا الاستخدام أفضى إلى تحطيم النماذج والماكيتات، وتحويل قاعاته إلى مستودع للمصادرات، في حين جرى استغلال الحديقة الخلفية كمربض للدبابات.
ووفق ما يؤكده الشوحان، فإن المتحف لم يتعرض لعمليات سرقة مباشرة، لكنه تعرض لأعمال تخريب واسعة، ما يجعله بحاجة إلى برنامج ترميم وإعادة تأهيل طويل الأمد قد يمتد لخمس سنوات متواصلة من العمل الفني والتقني.
أصوات تبحث عن حلول
رغم القلق البالغ، لا يغلق المهتمون بالتراث الباب أمام حلول وسطية، فالناشط محمود الفرحان يقترح "البحث عن مبانٍ حكومية غير مستخدمة يمكن تحويلها إلى مكاتب للوزارة، أو حتى إنشاء مركز إداري حديث يلبي احتياجات التنمية، بعيدًا عن مبنى فريد في رمزيته".
الأكاديمي عيس الويس يقول لموقع "تلفزيون سوريا" إنه يمكن تحويل الأزمة إلى فرصة لإعادة تفعيل المتحف بدلاً من تقليصه، يمكن أن تتحول القضية إلى منصة تعاون مع منظمات ثقافية دولية، لتأمين الدعم المالي والتقني وإعادة افتتاح المتحف أمام الزوار، مضيفاً أنّه "إذا استطعنا أن نحوّل الاهتمام الحالي إلى ضغط إيجابي، فقد ننجح في فتح المتحف بدل إغلاقه".
بين التنمية وحماية التراث: معادلة صعبة
وتعليقا على أنّ التنمية الإدارية حاجة ملحّة لأي مدينة تسعى للنهوض من أزماتها، يؤكد الناشط محمد سليمان، أنّ التنمية لا تعني إلغاء الهوية، بل تتطلب صونها، والمتحف ليس مجرد مخزن للآثار، بل هو مدرسة مفتوحة، يمكن أن يُعاد استثماره ليخدم التنمية نفسها من خلال جذب السياحة الثقافية، وإحياء الأبحاث الأثرية، وتوفير فرص عمل جديدة مرتبطة بالثقافة.
ذاكرة لا يجوز مسحها
في مدينة أنهكتها الحرب خلال السنوات الماضية، يبقى متحف دير الزور واحدًا من المعالم القليلة القادرة على تذكير الناس بجذورهم العميقة، فزوّاره يرون وجوه أجدادهم في التماثيل، ويكتشفون أنّ مدينتهم لم تبدأ مع حاضرها المضطرب، بل امتدت عبر حضارات تركت بصمتها في العالم.
لذلك، وجّه مهتمون بالتراث، التقاهم موقع تلفزيون سوريا، نداءً إلى الجهات المعنية للبحث عن بدائل تحقق أهداف التنمية من دون المساس بهذا الصرح الفريد، معتبرين أنّ المتحف ليس ملكًا لجيل واحد، بل إرث أجيال قادمة، وأن حمايته واجب أخلاقي قبل أن يكون التزامًا قانونيًا.
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه
اقرأ أيضاً