Syria News
جاري تحميل الأخبار العاجلة...

من الثورة على الأفكار والذات إلى تأسيس الدولة

الإثنين، 8 سبتمبر 2025
من الثورة على الأفكار والذات إلى تأسيس الدولة

يَزعُم بعضُ السوريين الكارهين والحاقدين على الحكومة السورية المؤقّتة، أنّ كان لديها نوايا مُسبقة لتنفيذ مجازر بحقّ جزءٍ من المكوّنات والأطياف السورية في الساحل وفي السويداء. وأوّل ما يتبادر إلى الذهن تجاه هذه المزاعم التساؤل: كيف يمكن لحكومة وليدة أن تُعِدّ العدّة مُسبقًا لفعلٍ مشينٍ كهذا، وهي تُدرك أنّ أمرًا كهذا قد يُزلزل كيانها ويفتّت شملها؟ ومع ذلك، لو أنّها فعلًا كانت تخطّط لذلك، لما وُجدت أنسب من أيّام التحرير الأولى لتنفيذه. لكن ما حدث كان مختلفًا تمامًا، وقد تجلّى من خلال الإعلان الذي أدلى به السيّد أحمد الشرع – ولم يكن قد صار رئيسًا بعد – بقوله: «اذهبوا، عليكم الأمان». ليعقب ذلك العديد من الإعلانات والتصريحات، ومنها إعلانه عن ضرورة انتقال السوريين من مرحلة الثورة إلى مرحلة الدولة. وهو ما يمكن أن يُستشفّ منه الدعوة إلى التوقّف عن الأعمال القتالية والعسكرية، والانصراف إلى تحقيق الأمان والاستقرار لبناء دولةٍ يدعمها السلام والعدل والازدهار. وما أجلَّ وأعظم أن تُبنى مثل هذه الدولة فوق أطلال ما خلّفته العصابات الأسدية من خرابٍ ودمار.

وبالنظر إلى ما حدث في الساحل وما نتج عنه من ضحايا، فإنّه يعود في أساسه إلى ذلك الخراب والدمار، وما ضخته العصابات الأسدية من شرورٍ وأحقادٍ في أوردة وعقول السوريين على مدار أربعةٍ وخمسين عامًا؛ أحالت الحياة السورية إلى تلالٍ من الأنقاض والمستنقعات. وربما ما كانت لتقع تلك الأحداث لولا الفظائع، ولولا التخطيط المُسبق من بقايا الفلول الأسدية التي صعقها وآلمها انهيارها المباغت، وقد انهارت معه أمجادها ومكاسبها. وهي على استعدادٍ دائم لأن تفعل الأفاعيل لاستعادة ما كان لها، ولو كلّفها ذلك آلاف المجازر والإبادات. فهذا هو ديدنها.

وكذلك الأمر فيما يخصّ أحداث السويداء؛ وقد استغلّ العدوّ الأزرق واقع الحطام السوري فحرّض بعضًا من أبناء السويداء، وشجّعهم منذ اليوم الأوّل على التصلّب في المواقف، واستعمال خطابٍ عنيفٍ يتماشى مع عنف القصف الجوّي الذي تعرّضت له معظم الأراضي السورية منذ الساعات الأولى للتحرير.

وعليه، فمن غير المنطقي الادّعاء بأنّ تلك الأحداث وليدة خططٍ مُسبقة من قِبَل السلطة الجديدة، وهي تُدرك – كغيرها – أنّ المجتمع السوري قابلٌ للاشتعال والانفجار من أيّة شرارة. وهذا الاشتعال لو حدث – لا قدّر الله – فلن يكون في صالحها ولا في صالح أيٍّ من السوريين. وهذا ما وقع بالفعل في الساحل وفي السويداء، لا لأن السوريين طائفيون في أصلهم، بل لأنّ كثيرين منهم لم يشفَوا بعد من الفيروسات الأسدية، وما زالوا يتصرّفون تحت تأثيرها.

أمّا دول العالم ومنظماته، فهي تُدرك جيّدًا ما حلّ بسوريا، وتتفهم – بحكم تجاربها – إمكانيّة حدوث جرائم ومجازر وتجاوزات في المراحل الانتقالية التي تمرّ بها الشعوب التي حكمتها الديكتاتورية والمافيوية كما العصابات الأسدية. وهي لا تستغرب أن يخرج من هنا أو هناك – سواء من فصيلٍ تابعٍ للسلطة الجديدة أو من الفلول الأسدية – مَن يرتكب الجرائم والمحظورات طلبًا للثأر أو للغنيمة. لذلك فهي تحرص على ألّا تُحمّل السلطة الجديدة المسؤولية الفعلية عن تلك الأحداث، ولا تدعو إلى شيطنتها أو الانقلاب عليها، على الأقل في المدى المنظور، إنّما تُحمّلها مسؤولية كونها السلطة المُخوّلة للحدّ من وقوع مثل هذه الفظائع، أيًّا كان مرتكبوها.

وهذا على عكس ما يسعى إليه مَن خسروا مكاسبهم مع سقوط الأسدية؛ فهم لا يرون في السلطة الوليدة سوى سلطة إرهابية يجب دحرها وهزيمتها، فيصفونها بالداعشية، والقاعدية، والإرهابية، وبكل ما يمكن أن يُنفّر السوريين. حتى إنّهم، حين يتوقّفون عند تجربة رئيس الجمهورية أحمد الشرع والمراحل التي مرّ بها، لا يستخلصون من التحوّلات التي عاشها إلا ما يدعم مزاعمهم؛ متجاهلين أنّه – قبل أن ينقلب على غيره – انقلب على ذاته، وعلى ما كان يحمله من أفكارٍ ومعتقدات. وربما سيجد الباحثون مستقبلًا أنّ ما أحدثه من تحوّلات على الصعيد الشخصي والفكري والعقائدي كان بمنزلة ثورة على الذات.

لقد بدأ مسيرة حياته شابًا ذهب ليدافع عن العراق عقب الغزو الأميركي، ثم وجد نفسه منضمًّا إلى تنظيم القاعدة، ذلك التنظيم الذي حظي في تلك المرحلة بشهرةٍ عالمية. وربما لم يكن الشرع قد تجاوز العشرين من عمره، ومع ذلك استطاع أن يُثبت شيئًا من قدرته وذكائه داخل هذا التنظيم، وإلا لما حظي – وهو بمثل ذلك العمر – بموقعٍ قيادي. ومع مرور الزمن، راح يُراقب مجريات الأحداث وتحوّلاتها، حتى توصّل إلى قناعاتٍ وأفكار تختلف عمّا كان عليه، مما دفعه إلى الانشقاق عن القاعدة، والانقلاب على قياداتها، وتأسيس جبهة النصرة، ثم هيئة تحرير الشام، التي صاغ لها أهدافًا ورؤى جديدة، وانخرط في معارك على كثير من الجبهات.

ثم وجد أنّه لا بدّ من وضع حدّ للتقاتل والتناحر بين التنظيمات والتشكيلات السورية. ومن هنا بدأ يُضيّق الخناق على حالة التفكّك، ساعيًا إلى توحيد الفصائل، وكثير منها كان يحمل عقائد وأفكارًا تسعى لإقامة خلافاتٍ وإمارات. وربما ما كان له أن يُقنعها بما توصّل إليه من رؤيةٍ جديدة لولا أنّه انفتح عليها وتعامل معها بمرونة حتى تنفتح بدورها عليه، فتحلّ نفسها لتنضمّ إلى هيئة تحرير الشام، التي عمل فيما بعد على حلّها أيضًا، بعد أن أسّس في إدلب نواةً أولى للدولة ممثلة بحكومة الإنقاذ. وعلى الأغلب يعود ذلك إلى وعيٍ مبكر لديه بأنّ الخلاص من الأسدية يستحيل أن يتحقق بنصرٍ عسكري ما لم يتبعه نصرٌ مدني. لذلك أقام الكلية العسكرية والمعاهد والجامعات لإعداد الكوادر وتهيئتها للحظة هزيمة الأسدية، وبناء الدولة في كل ربوع سوريا، وكانت إدلب محطة التمرين على ذلك.

وبالفعل، ما إن سقطت الأسدية، حتى خرج من بين هؤلاء المقاتلين والثائرين علماء وأساتذة وأطباء ومهندسون ومربّون وممرّضون ومسعفون وموظفون، تولّى العديد منهم مناصب في السلطة الجديدة. وبعيدًا عن تقييم كفاءاتهم، ما يعنينا هنا أنّهم كانوا جاهزين لمثل هذه اللحظة الفاصلة من تاريخ سوريا.

وسرعان ما ثُبّتت بعض قواعد إدارة الدولة الجديدة، أعلن السيّد أحمد الشرع تحرّره من كل الخطابات والإعلانات التي تبنّتها المنظمات والفصائل التي تنقّل بينها، ليؤكد أنّه لم يعُد امتدادًا لأيٍّ منها. وكان قد حلّ هيئة تحرير الشام، كما طالب مؤخرًا بحلّ حزب الإخوان، معترفًا بماضيه الفكري المنغلق، متطلّعًا إلى فكرٍ أكثر انفتاحًا ومرونة، يتناسب مع المستقبل ويؤسّس لدولة تقوم على العدل والقانون، لا على الفتاوى الدينية. ولعلّ السوريين سيتفاجأون قريبًا بإعلان سوريا دولةً ديمقراطية، تتحرّك انطلاقًا من صناديق الاقتراع، لا عن طريق التعيينات.

وقد يبدأ الشرع بنفسه؛ فهو – بحسب ما يتسرّب من وشوشات في الكواليس – يُراقب مع فريقه أداء الوزراء والمديرين والموظفين، وسوف يعزل – وعلى مراحل – كلّ مَن أخلّ بمهامه أو قَصُر أو تلطّخ بالفساد. ولعلّ السوريين يتدرّبون الآن على التعبير عمّا يريدون قوله، فيما يُراقبون ويتأمّلون ويتعرّفون تباعًا على مَن يديرون السلطة، ليقولوا فيهم قولهم عبر صناديق الاقتراع مستقبلًا. ومن هناك ستنبثق وجوه وأحزاب وتكتلات ومنظمات، تخرج من نبض الناس واحتياجاتهم، لا من تعيينات الأفرع الأمنية والهتافات كما كان في الحقبة الأسدية.

Loading ads...

لكن بعض السوريين الحاقدين لا يريدون أن يعترفوا إلا بماضي أحمد الشرع، ويُحاكمون الحاضر والمستقبل بمنظار الأمس. وهذا – لَعَمري – جهلٌ وانغلاق رهيب، وأمنية تحمل في خفاياها العودة بسوريا إلى الوراء.

لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه