في مؤسسات كثيرة يتكرر مشهد صامت: تُطرح أسئلة مشروعة حول سلامة إجراءات التوظيف أو الترقية. هل توصيفات الوظائف ثابتة؟ هل المعايير مُعلَنة ومتوازنة؟ هل لجان المفاضلة محايدة وموثّقة؟ ثم لا يلبث النقاش أن ينزاح، بلطف ولغة إيجابية، إلى حديث عن السلوك المهني والحاجة إلى خطة تطوير. في الظاهر يبدو هذا النهج أقلّ حدة من مراجعة الملفات والوثائق، أما في الجوهر، فيُنقَل ثقل القضية من النظام إلى الفرد، تُستبدل مساءلة الإجراء بتدريب شخصي، فيخفت ضوء الحقيقة، حيث يجب أن يسطع.ليست المشكلة في التطوير ذاته، فالتطوير ضرورة دائمة للحفاظ على لياقة المنظّمات وكفاءتها. إنما مكمن الخلل حين يُستعمل التطوير بديلاً عن الحوكمة لا امتداداً لها، حين تُعالج الأسئلة المؤسسية بأدوات فردية فيضيع الفارق بين تصحيح المسار الإجرائي وتحسين المهارة الشخصية. وهنا تتآكل الثقة تدريجياً، وتفقد المؤسسة قدرتها على الدفاع عن قراراتها بمنطق مسنَد ووثائق قابلة للمراجعة.يبدأ الانزلاق من النظام إلى الفرد غالباً من ملاحظة تقنية بسيطة أو تساؤل إداري مشروع: هل تم تجميد توصيف الوظيفة قبل الإعلان؟ هل وُزِّنت معايير المفاضلة ونُشرت بشفافية؟ هل وُثِّقت أعمال لجنة الاختيار بمصفوفة تقييم موضوعية ومعايير محددة ومحاضر مختصرة تُبيّن سبب القرار؟ فإذا بالمحادثة تتجاوز هذه الأسئلة الدقيقة إلى أحكام عامة من نوع يلزم تحسين أسلوب التواصل أو نبرة الحوار تحتاج تهذيباً. وهكذا تنتقل العدسة من سلامة الإجراء إلى صفة شخصية محتملة، وقد لا تكون هي المشكلة أصلاً.وهنا يظهر المثال الأوضح على ذلك: في إحدى المؤسسات، اعترض موظف مهني على تعديل توصيف وظيفة بعد إغلاق التقديم عليها، مبيّناً أن التعديل أخلّ بمبدأ تكافؤ الفرص وشفافية المفاضلة. لم تُراجع الوثائق، ولم تُفتح محاضر اللجنة، بل وُصف أسلوبه بأنه انفعالي وأُدرج اسمه في خطة تطوير سلوكي. وهكذا تحوّلت قضية إجرائية إلى انطباع شخصي، وغابت الوثيقة التي كان يجب أن تُراجع، ليبقى الأثر الإداري بلا سند. بعد عامين تكرّر الموقف ذاته مع متقدّمين آخرين، بنفس الملاحظات، وبنفس الصمت. لم تكن المشكلة في الشخص، بل في غياب الذاكرة المؤسسية.هذا التحويل لطيف في لغته، مُكلِف في أثره، إذ يَحُول دون التعلّم المؤسسي، فلا وثائق تُراجَع، ولا سوابق تُبنى، ولا معايير تُصقَل. ويغدو القرار، بعد حين، رواية حسنة النية لا سنداً موثّقاً. وعندما تُختبر المنظومة عند تنافس محتدم أو طعن مُحق، لا تجد ما تحتجّ به سوى الذكرى والتقدير، وهما أضعف الأدلّة في عالم الإدارة الرشيدة.على المدى القريب، يشيع شعور خافت بعدم اليقين: من يطرح سؤالاً إجرائياً قد يُفهم أنه صاحب مشكلة سلوكية، فيفضّل الصمت. ومع الصمت يقلّ التعلّم وتتكرّر الأخطاء. وعلى المدى البعيد، تتسرّب الكفاءات بهدوء، وتتراكم قرارات يصعب تبريرها إن طالبت الأطراف المعنية بتفسير مهني موثّق. وحين تنشب أزمة أو تتعقّد مساءلة، تظهر ثغرة مؤجلة: غياب أثر مكتوب منذ اللحظة الأولى.مدخل الإصلاح لا يكون بالخصومة ولا بتسمية المقصّرين، بل بتصميم مسار واضح تُثبّته وثائق خفيفة وسهلة ويُحترَم فيه ترتيب الخطوات. فالحوكمة تسبق التطوير، وتُحدّد قواعد اللعبة قبل انطلاقها. يُجمّد توصيف الوظيفة ومسؤولياتها ومعاييرها قبل الإعلان، وتُحفَظ نسخ مؤرّخة بموافقات واضحة. فإن اقتضى التعديل لاحقاً، سُجِّلت أسبابه ومَن صادق عليه وتاريخه. بهذه البساطة يُغلَق باب التأويل.وتُدار انطباعات التحيّز بذكاء وقائي يقي من الظنون. تُسجّل إقرارات تضارب المصالح لأعضاء اللجان وفق نموذجٍ موجز، فإن وُجد تقارب قد يثير حرجاً، استُخدم التنحّي الطوعي أو أُضيف مراقب محايد. ليست المسألة اتهاماً، بل حماية للقرار من ظلال الشك.أما التقييم، فيجب أن يُشبه السؤال المطروح، تُعتمَد مصفوفة تقييم موضوعية بأسئلة موحّدة وأوزان معلنة ومستويات أداء محددة. تُحفَظ نماذج الدرجات بهويات مُموّهة، وتُكتب مذكرة قرار تربط النتيجة بالمعايير لا بالانطباعات. هك ذا يغدو القرار قابلاً للمراجعة، لا أسيراً للذاكرة.وحيث يلزم التطوير، فلنترجمه إلى أثر واضح. إن وُجد بُعد سلوكي يحتاج دعماً، صيغت له فترة محددة تُقاس بنتائج لا بشعارات: موجزات مهنية تُرسل لأصحاب المصلحة وتوثَّق جلسات الإرشاد والتدريب، وتُقاس الرضا والمؤشرات والأداء بنِسَب دقيقة، وعند تحقق النتائج يُغلق الملف بعبارة صريحة: تمّ الاعتماد. عندها يستعيد التطوير معناه الحقيقي: اعتماد جاهزية لا تعليق سمعة.هذا النهج أكثر عدلاً ونفعاً للجميع، فهو يوازن بين الإنصاف والكفاءة والطمأنينة. الإنصاف يتحقق حين تسبق القواعد الأشخاص وتُطبّق على الجميع. والكفاءة تتحقق حين تُوجّه الموارد إلى موضع الخلل الحقيقي، نظاماً كان أم سلوكاً. والطمأنينة تتحقق حين يصبح لكل قرار أثر مكتوب، فيُحسَم الاختلاف بوثائق لا بنوايا.إنه نهج يحمي الجميع: يحمي صاحب القرار لأنه يزوّده بأدلة مهنية تُبرّر اختياره، ويحمي من لم يقع عليه الاختيار، لأنه يوضّح له مجالات التطوير بمؤشرات واضحة، ويحمي المؤسسة لأنها لا ترهن سمعتها لاجتهاد عابر. والوقاية من الانزلاق مجدداً تكون سلوكية وإجرائية، فسلوكياً تُعتمد لغة محايدة مطمئنة، مثل مواءمة الإجراءات واتّساق السياسات وإدارة انطباع التحيّز، وإجرائياً تصبح القاعدة واضحة: لا خطوة بلا أثر مكتوب، توصيف، مصفوفة تقييم، إقرار تضارب مصالح، مذكرة قرار، ثم خطة تطويرٍ مُقاسة بنتائج وموعد إقفال. هكذا تنتقل المؤسسة من سردياتٍ حسنة النية إلى سجل مهني يُعلّم ويصون.ليست خطة التطوير خصماً للحوكمة، بل شريكتها الطبيعية إذا وُضعت في موضعها الصحيح. والمؤسسة التي تُحسن ترتيب أولوياتها، فتقدّم الحوكمة على التطوير، تربح الثقة وتحسّن استعدادها للمساءلة وتبني ذاكرة مؤسسية تُصقل الأداء بدل أن تُرهقه. أما حين تُستَخدم لغة التطوير غطاء على فجوات الإجراء، فالثمن مؤجّل لا مفرّ منه: قرارات يصعب الدفاع عنها وثقة كلما انكسرت طال ترميمها. الطريق واضح وبسيط: قواعد تنطلق قبل الأسماء، ووثائقُ تمسك بالخيط من الإعلان إلى القرار، وتطوير ينتهي بعبارة كريمة قاطعة: تمّ الاعتماد. عندها تستعيد المنظمات معناها الصحيح: أن تخدم الحقيقة بكفاءة، وأن تُنصف الإنسان من خلال نظام عادل لا من خلال لياقات لغوية.
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه






