Syria News
جاري تحميل الأخبار العاجلة...

المسيح الأندلسي.. رائعة تيسير خلف

الإثنين، 15 سبتمبر 2025
المسيح الأندلسي.. رائعة تيسير خلف

في رواية «المسيح الأندلسي» لتيسير خلف، وهو روائيٌّ متمرّسٌ صاحبُ تجربةٍ خاصةٍ جدًا ومنهجٍ سرديٍّ صعبٍ عميقٍ يخاطب متلقًّى خاصًا، يختار بلغتهِ وسياقاتهِ وفرادتهِ موضوعًا لافتًا، لعلّه لم يسبقه إليه أحد.

مصائرُ الشخصياتِ محمّلةٌ بكثافةٍ دراميةٍ وتاريخيّة، تعكس مأساة التحوّل القسري للموريسكيين في إسبانيا ما بعد سقوط غرناطة، كما تجسّد مصيرَ الهويات الممزّقة بين الدين والعرق واللغة والثقافة التي تحكم مصائر الشخصيات المحورية، وهي على النحو الآتي:

عيسى بن محمد البطلُ الرئيسيُّ للرواية، شابٌّ موريسكيٌّ نشأ في ظل الاضطهاد الإسباني للمسلمين، فوجد نفسه ممزقًا بين هويته الإسلامية الأصلية، وانخراطه القسري في منظومة التنصير والهيمنة الثقافية. يتّخذ عيسى من التدوين والتوثيق وسيلةً للمقاومة، فيكتب مذكراته بلغته الممنوعة، مستحضرًا الموروث العربي الإسلامي، وموثِّقًا للمآسي التي حلّت بقومه. مصيره يتأرجح بين الخلاص الفردي واليأس الجمعي، إذ يتوحد رمزيًا بالمسيح المضطهد، من دون أن يجد مخرجًا حقيقيًا من المأساة سوى في الكتابة والتأريخ.

أما الأب أوغسطين، ممثلُ المؤسسة الدينية الكاثوليكية، فإنه يتمدّد في الرواية بوصفه رمزًا للقمع المقدّس. ورغم ظهوره في البداية مثقفًا لاهوتيًا، إلا أنه يتحول تدريجيًا إلى تجسيدٍ للوجه القمعي للكنيسة، حيث يسهم في قمع الموريسكيين وتعذيبهم نفسيًا وروحيًا. مصيره مرتبطٌ بانهيار منظومة السيطرة الأخلاقية التي يمثلها، إذ يتعرض لتشكيكٍ داخلي يفضي إلى نوعٍ من الانكسار الرمزي أمام صمود اللغة والذاكرة.

الأم، الشخصية الرمزية:

تُشكّل الأمُّ رمزًا للهُوية الموريسكية الأصلية التي تحاول أن تحافظ على تراثها سرًا. مصيرها مأساويٌّ، إذ تقضي ضحيةً للقمع، حاملةً في جسدها ذكرى الوطن واللغة والطعام والموسيقا، وهي تمثل ذاكرةً جماعيةً للمرأة المسلمة في الأندلس، وقدرتها على تمرير ثقافةٍ كاملة داخل جدران المطبخ والغرفة المغلقة.

صديق البطل؛ فيرناندو/فارس:

شخصية تجمع بين الانتماء السطحي للسلطة الإسبانية والانفتاح على ثقافة الآخر. مصيره يتقاطع مع مصير البطل، حيث يُظهر تعاطفًا، لكنه يتوقف عند عتبة الخوف من العقاب. هذه الشخصية تمثل المواطن الإسباني «الرمادي»، الذي يدرك المظلمة لكنه لا يفعل شيئًا لتغييرها، وبالتالي يضيع أخلاقيًا في متاهة اللاموقف.

شخصيات فرعية: الجنود، الكهنة، العامة:

تُرسم هذه الشخصيات بطريقة تؤكد بنية «القطيع»، أي أولئك الذين ساروا خلف السلطة الدينية أو السياسية من دون مساءلة. مصائرهم تتراوح بين التواطؤ والصمت، وهي التي تؤسس لجذر الاستبداد الثقافي والديني. بعضهم يتحولون لاحقًا إلى ضحايا أنفسهم حين تنقلب السلطة عليهم.

الرواية لا تُغلق مصائر الشخصيات على شكل نهاياتٍ مغلقة، بل تتركها مفتوحةً تتأرجح في سياقٍ تاريخي أكبر من الأفراد. الشخصيات كلها تسير نحو نوعٍ من «المصلب الثقافي»، حيث تتقاطع كلُّ دروبهم في منفى داخليٍّ وخارجيٍّ في آنٍ معًا، كما لو أن النهاية الوحيدة الممكنة هي فقدانُ المعنى الأصلي للهوية، في مقابل مقاومةٍ رمزية عبر اللغة والذاكرة والكتابة السرية.

إجمالًا، تتحوّل اللغة في رواية «المسيح الأندلسي» إلى بطلٍ خفي؛ فهي ليست مجرد وسيلةٍ للسرد، بل ساحةُ صراعٍ وميدانُ مقاومة. يستخدم الكاتب اللغة العربية، أو ما تبقى منها في شكلها السري (الخميادو)، وهي مفارقةٌ ذُكرت في عملٍ أدبيٍّ روائيٍّ مهمٍّ آخر لإبراهيم الجبين بعنوان «الخيميادو»، مما يؤكد رمزيةَ المقاومة عبر اللغة وأهميتها. إن السعيَ للاستمرار عبر الكتابة، ورفضَ المحو الثقافي، هو الذي استدعى كتابةَ اثنتين من أهم الروايات العربية، برأيي الشخصي، في الربع الأول من القرن الواحد والعشرين. وبالعودة إلى رائعةِ تيسير خلف، كانت لغةُ الخميادو أداةً للحفاظ على الهوية ومجابهةِ محو الذات. عيسى بن محمد لا يقاتل بالسلاح، بل بالكلمات، ويجعل من التوثيق باللغة العربية المنفية فعلًا وجوديًا. إن استمراره في استخدام هذه اللغة مقاومةٌ فعليةٌ لمحاكم التفتيش، وللتذويب القسري في الثقافة الإسبانية. فاللغة هنا لا تُمارَس فقط كأداة تواصل، بل كقيمةٍ أخلاقية، وسلاحٍ رمزيٍّ يحفظ الذاكرة من الفَناء. إن الكتابة تصبح صرخةً مكتومةً في وجه القمع، وشهادةً تحفظ التاريخ من الزيف، وتشبه بذلك دفاتر الخميادو التاريخية التي أنقذت ذاكرة الموريسكيين من المحو.

لم تكن الإشارةُ إلى الخميادو في رواية «المسيح الأندلسي» لتيسير خلف مجردَ تفصيلٍ لغوي أو إحالةٍ تاريخيةٍ عابرة، بل كانت جوهرًا بنيويًا ومجازيًا للفعل الروائي ذاته. لقد مثّلت هذه اللغةُ الهجينة (كتابةَ الموريسكيين نصوصَهم العربية بحروف لاتينية) نموذجًا سرديًا للمقاومة الرمزية، حيث تحوّلت اللغةُ من أداةِ تواصلٍ إلى درعٍ وجودي يحمي الهوية من الفَناء، ويؤكد أن الذاكرة لا تموت طالما وُجدت كلماتٌ تُدوِّنها، حتى وإن تخلّت عن شكلها التقليدي.

من خلال اعتماد البطل عيسى بن محمد على هذه اللغة في مذكراته، يكشف النص عن وعيٍ وجوديٍّ مركّب: فالخميادو ليست فقط طريقةً للنجاة من رقابة محاكم التفتيش، بل نموذجٌ استعاريٌّ لمقاومة الطغيان عبر التخفي الثقافي. هي أشبهُ بوشمٍ غير مرئي على جسد الجماعة، يدلُّهم على أنفسهم في زمن الإلغاء، ومجازٌ لغويٌّ عن صراع الإنسان مع الاستئصال.

ولأن الرواية تُبنى على جدليةِ المحو والنجاة، فإن الخميادو تمثل هنا أداةَ استبقاءٍ لكل ما هو ممنوع: الدين، اللغة، الذكرى، الحكاية، وحتى الأمومة، إذ تنقلها النساء سرًا عبر وصفات الطعام والأغاني والأدعية. يتماهى الشكلُ الروائيُّ نفسه مع هذه اللغة، فيراكم المعاني داخل طبقاتٍ من الرموز والتناصات والمراوغة، كأن الروايةَ كلَّها مكتوبةٌ بروح الخميادو.

لقد أضاف حضورُ الخميادو إلى الرواية بُعدًا تشكيليًا ومعماريًا، حيث تتحوّل اللغةُ إلى شبكةِ مقاومةٍ سرية، وتغدو الكتابةُ نفسها شكلًا من «التهريب الثقافي»، كما كان الموريسكيون يخفون المصاحف في جدران بيوتهم. بل يمكن القول إن الخميادو في الرواية تمثل «الشيفرة الوراثية الثقافية» للشخصيات، التي تسمح لها بالاستمرار وسط الطمس، كما تمثل للقارئ المفتاحَ السرديَّ لفهم الرواية بوصفها نصًا عن البقاء في مواجهة المحو.

أراد تيسير خلف من خلال رواية «المسيح الأندلسي» أن يُحيل إلى قضايا معاصرة تمسُّ الواقع العربي، وبشكل خاص الواقع السوري في زمن القمع والاستبداد، والانهيار الثقافي والاضطرابات السياسية. الرواية تُستخدم كمرآةٍ رمزيةٍ تعكس مصير الشعوب التي تواجه محاولاتِ محو الهوية، تمامًا كما حدث للموريسكيين بعد سقوط الأندلس.

الاستبداد الديني والسياسي

تضع الروايةُ القارئَ أمام تجربة محاكم التفتيش وعمليات التنصير القسري، لكنها، من خلال هذا التاريخ، تشير إلى آليات القمع المعاصرة التي تمارسها الأنظمةُ السلطوية في العالم العربي.

الهوية الممزقة والمنفى الداخلي

يعاني البطل عيسى من انقسامٍ داخلي بين ما فُرض عليه وما يؤمن به، وهي إشارةٌ واضحةٌ إلى حال كثيرٍ من المثقفين العرب الذين يُجبرون على العيش في نفاقٍ فكريٍّ أو ثقافيّ.

إن استخدام الخميادو لا يحيل فقط إلى الماضي، بل يمثل أيضًا رؤيةً للواقع المعاصر، حيث تُمنع الكلمات وتُقيَّد الأفواه، ويضطر المثقف إلى اللجوء إلى «لغةٍ سرية» ليقول ما لا يمكن قوله علنًا.

عن السرد

يوحي السردُ الدائريُّ في الرواية بأن مأساة الموريسكيين تتكرر في مأساة السوريين والفلسطينيين وغيرهم من المهجّرين هذه الأيام.

صرخة الذاكرة

تتخذ الروايةُ شكلَ الشهادة، وتطرح أسئلةً معاصرةً عن مصير من فقد وطنه ولغته ودينه، وتترك القارئ أمام سؤالٍ محوري: «ما الذي يمكن فعلُه حين تُختَطف الذاكرة؟».

كما تحمل صفحاتُ الرواية في طيّاتها تلميحًا رفيعًا إلى النكبات العربية المتكررة، وإلى الدور الذي يمكن أن تلعبه الكتابةُ واللغةُ كأدواتِ مقاومةٍ رمزيةٍ في وجه الاستئصال والخراب. وإذا كانت الكنيسة قد مارست دورَ محاكم التفتيش، فإن الراهنَ العربي يُمارس دورَ الرقابة والقمع الفكري، مما يجعل من «المسيح الأندلسي» نصًا معاصرًا بامتياز، حتى وإن استعار لَبوسَ التاريخ.

وليس آخرًا

Loading ads...

أخيرًا، وليس آخرًا، يشكّل البناءُ السردي في «المسيح الأندلسي» جزءًا أصيلًا من المعنى الكامن في النص، إذ يعتمد تيسير خلف على توازي حكايتين رئيسيتين: رحلةِ عيسى بن محمد في البحث عن جذوره وكشفِ قاتل أمّه، ورحلةِ فيروزة التي تقع ضحيةَ الخيانة والاختطاف. هذا التوازي لا يقوم على التشابه الظاهري فحسب، بل يعكس بنيةً قدريةً واحدةً تتكرر بصيغٍ مختلفة؛ إذ يغيّر كلٌّ منهما اسمَه ودينَه قسرًا، ويعيش في منفى داخلي وخارجي، ويلجأ إلى مهارةٍ شخصيةٍ للبقاء (التدوينُ السري لعيسى، والتطريزُ الفني لفيروزة) باعتبارهما شكلًا من أشكال المقاومة الرمزية. أمّا على مستوى الزمن، فيتشابك السردُ بين استرجاعات الطفولة في الأندلس، والمشاهد الحاضرة في إسطنبول وباريس والبندقية، في شبكةٍ زمنيةٍ متداخلة تُبقي القارئ في حالةِ تنقّلٍ دائم بين طبقات الذاكرة والواقع. هذا التشابك يمنح الخميادو (بوصفها لغةَ تخفٍّ ومراوغة) مرآةً سردية، حيث يصبح شكلُ الحكاية ذاتِه فعلَ اختباءٍ ومقاومة، تمامًا كما فعل الموريسكيون حين حوّلوا لغتهم إلى حصنٍ منيعٍ ضدّ المحو.

لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه