شكّل إلغاء قانون قيصر، الذي كان مفروضاً على سوريا من قبل الإدارة الأميركية، إمكانية تحوّل جذري وانعطافة مهمة وكبيرة في حياة السوريين، ويمكن اعتباره ولادة جديدة تفتح الأفق المغلق وتوسّع آمال الازدهار والتنمية في بلدٍ أنهكه الدمار الذي تسبب به الرئيس الهارب، ولا سيما مع التدفق المحتمل للأموال والاستثمارات التي ستحرّك الركود الاقتصادي وتوفّر فرص العمل لملايين السوريين، وفي الوقت نفسه تدفعهم للعمل والبناء بدلاً من المكوث طوال اليوم خلف الشاشات الزرقاء لمتابعة المعارك الكلامية على السوشيال ميديا والمشاركة فيها وتأجيجها، حيث يُعدّ الفراغ والبطالة من الأسباب الرئيسية التي حدّدت مكان إقامة السوريين خلف تلك الشاشات، وكانت إقامة شبه جبرية بسبب غياب الخيارات الأخرى، فضلاً عن انسداد الأفق وانعدام الأمل الذي ساد لفترة طويلة وجعل من السوريين فريسة سهلة لكل حالات الاستقطاب والانحياز والتعصّب للرأي الواحد.
دوران عجلة الاقتصاد من شأنه أن يغيّر بوصلة السوريين وأن يوجّه اهتمامهم إلى مكان مختلف تماماً عمّا يسود اليوم من عنف لفظي وجسدي وتبادل للاتهامات والتخوين والانشغال الكامل بتصيّد كل طرف لأخطاء الآخرين، أو حتى ابتداعها وإلصاق التهم جزافاً في كثير من الأحيان نتيجة الفراغ والخوف من الآخر، ودوران عجلة العمل من شأنه أن يضع قواعد قوية لبداية جديدة ينشغل فيها الناس بمستقبلهم بدلاً من بقائهم معلّقين بين الماضي وأحداثه الدامية وتداعيات هذا الماضي على حاضرهم وواقعهم الذي كان مغلقاً ومجهولاً وراكداً.
ثمّة مخرج واحد، ولا يبدو غيره يلوح في الأفق، يمكن اعتباره مخرج الطوارئ، وهو بالتأكيد لا يروق لمن تعرّضوا للظلم، ولكننا لا يمكن أن نقف عند الأوجاع الفردية حينما نتعرّض جميعاً للخطر.
غير أن كل تلك الأمنيات ما تزال تصطدم بحائط صدّ وبعُقَد شديدة الحساسية يمكن أن تبدّد الآمال المعقودة على إلغاء قانون قيصر، لأنها تهدّد بانفجار الأوضاع في أية لحظة، وذلك الحائط المفخّخ هو ما يقف حائلاً أمام إمكانية تحقيق الاستقرار والسلم الأهلي، وهو يتمثل بشكل واضح في المظلوميات التي نشأت بعد التحرير، وتحديداً في الساحل والسويداء.
ورغم التعافي النسبي الذي يحدث في الساحل وإمكانيات تضميد الجراح، والمحاولات الجادة التي يبديها كل من الحكومة ووجهاء الساحل وحتى الكثير من قواه الشعبية لتجاوز ما حدث والبدء من جديد، إلا أن بعض القيادات التي تصدّرت المشهد ودخلت من البوابة الدينية للطائفة العلوية ما تزال مصرّة على تصعيد المظلومية، وتدعو إلى الثأر والانفصال والتعامل مع الإدارة السورية الحالية على أنها عدو وليست خصماً سياسياً، وأوضح مثال على ذلك هو نموذج الشيخ غزال غزال، الذي يستند إلى مظلومية آذار الماضي ويجعلها أداة للتصعيد.
ورغم جراح الطائفة العلوية والظلم الذي وقع على الكثير من الأبرياء، إلا أن معظمهم لا يعطي للشيخ غزال غزال أهمية كبيرة، وليس هناك اتفاق عليه كقائد للطائفة، لأن معظم العلويين يريدون الاندماج في سوريا الجديدة، بل إن الكثيرين منهم متصالحون مع الحاضر رغم الأذى والألم الذي سبّبته تلك الأحداث، وهم متصالحون مع الواقع الجديد بناءً على تفهّمهم لما حدث في السنوات السابقة حيث كانوا محسوبين على الأسد، والكثيرون منهم يَعون أن الانتهاكات التي حدثت كانت بدوافع الانتقام الشخصي أكثر من كونها ذات طابع طائفي، وأن الحل الوحيد يكمن في محاولة إيجاد صيغ للتفاهم المشترك وتجاوز البعد الطائفي، غير أن قسماً لا بأس به من أبناء الطائفة ما يزالون يتمترسون خلف المظلومية، وبالتالي خلف الشيخ غزال غزال، ويجدون فيه المخلّص الذي سيعيد الحقوق إلى أصحابها.
أما في السويداء فإن الأمر أكثر تعقيداً، لأن الانتهاكات التي وقعت هناك لا مبرّر لها، ولا سيما إذا ما أخذنا بعين النظر الدور الذي لا يمكن نكرانه لساحة الكرامة في إضعاف موقف الأسد، حيث أحرجته الساحة حينما استمر أهلها لأكثر من عام ونصف بالخروج في مظاهرات سلمية لم يكن الأسد قادراً على إطلاق التهم الاعتيادية عليها، مثل اتهام المتظاهرين بالتطرّف والإرهاب، ولذلك كان وقع الانتهاكات على أهالي السويداء أشد مرارة وإيلاماً، وهذا ما لا ينكره السوريون وما لم تنكره القيادة ذاتها.
وكما صدّرت مظلومية الساحل الشيخ غزال غزال كممثل للمظلومين، صدّرت السويداء الشيخ حكمت الهجري ناطقاً رسمياً باسم مظلومية السويداء، والذي كسر حدود المتوقع إلى درجة الإعلان عن الولاء الكامل لإسرائيل، وإعلان السويداء كجزء من الأرض العبرية، وأطلق عليها جبل الباشان، وراح يطالب بدولة مستقلة. ظاهر الأمر يبدو ردّة فعل يمكن تبريرها بالاستناد إلى الانتهاكات التي حصلت، ولكن مع الاعتراف بالمظلوميتين السابقتين وعدم التقليل من شأنهما، فإننا سنقع في العمق على معطيات أخرى يمكن التوقف عندها لتفكيك رموزها حرصاً على عدم التضحية بتلك المظلوميات على مذبح الأطماع الشخصية، وأشد تلك المعطيات خطراً على سوريا وعلى أصحاب المظلوميات ذاتهم هو تحويل الظلم إلى حالة صراع على السلطة، عن طريق توظيف المظلوميات ذاتها لصالح الأشخاص الذين يطرحون أنفسهم طرفاً في ذلك الصراع أكثر من حرصهم على حقوق الضحايا.
الأمر ذاته ينطبق على المكوّن الكردي الذي عانى لعقود من الظلم والتهميش وحتى الإلغاء التام، حيث عاش الكرد كمواطنين من الدرجة الثانية، والكثيرون منهم لم يتم التعامل معهم كمواطنين أصلاً أثناء حكم الأسد، وتم حرمانهم من أبسط حقوقهم المدنية، وهم يحاولون الآن ألا يكونوا ضحايا من جديد لأي سلطة جديدة، وذلك كله أمر قابل للفهم لا شك، ولكن التعنّت الذي تبديه قيادة قسد قد ينمّ أيضاً عن ركوب تلك المظلومية وتحويلها إلى أداة للدخول إلى حلبة الصراع على السلطة، وبهذا نكون أمام أربعة أطراف رئيسة تشكّل خريطة هذا الصراع المحتمل، وهي غزال غزال، وحكمت الهجري، ومظلوم عبدي، والسلطة الحالية، وهو الأمر الذي يوسّع حقل الألغام المزروع في طريق القطار السوري الذي يتهيأ للانطلاق، ويزيد من نسبة المخاطر التي ستجعل قرار إلغاء قانون قيصر بلا أي جدوى فيما لو بدأت الألغام بالانفجار واحداً تلو الآخر أو في وقت واحد.
وبنظرة معمّقة يمكن أن نغامر بوصف المشهد السوري الحالي وتلخيصه تحت عنوان الصراع على السلطة، وهذا ما كان متوقعاً حدوثه بطبيعة الحال بعد السنوات السابقة التي أسهم فيها نظام الأسد بشكل فعّال في تبديد ثقة السوريين فيما بينهم، وهيّأ الأرضية الخصبة لتحويل أي اختلاف قادم إلى حالة استعصاء، وبالتالي إلى صراعات مفتوحة وربما مستدامة تهدّد أي مشروع نهوض أو مشروع تنمية، وتهدّد فرص السلم الأهلي وفرص الاستقرار لعقود قادمة.
ما الحل إذن؟ هل يجب على المظلومين نسيان مظلوميتهم بتلك السهولة؟ وما الحلول الممكنة في ظل هذا الواقع القابل في أية لحظة للانفجار؟
الأمر كله اليوم متوقّف على وعي أصحاب المظلوميات الحقيقيين، والحذر من الشخصيات صاحبة الطموحات السياسية، وعدم الوقوع في فخ استغلالها، فالقيادات لديها دائماً الخطة (ب)..
ثمّة مخرج واحد، ولا يبدو غيره يلوح في الأفق، يمكن اعتباره مخرج الطوارئ، وهو بالتأكيد لا يروق لمن تعرّضوا للظلم، ولكننا لا يمكن أن نقف عند الأوجاع الفردية حينما نتعرّض جميعاً للخطر. في اللحظة التي تتعرّض السفينة للغرق، فإن على ركّابها جميعاً التعاون لإنقاذها أولاً، وبعد ذلك يمكن لمن وقع عليهم الظلم أن يحاسبوا ظالميهم، ولكن أن يتم ذلك الحساب في لحظة الخطر ذاتها فهذا يعني غرق السفينة بمن فيها على يد من يحاولون الخلاص بشكل فردي.
أمامنا اليوم فرصة أن نقصر الصراعات على الصراع السياسي وحده، أي العمل السياسي بكل ما فيه من شراسة وصخب: مؤتمرات، حوارات، خلافات، أحزاب، تكتلات، كل أنواع الصراع السياسي من أجل استرداد الحقوق، ولكن على خلفية الحرص على البلد من جميع الأطراف، وبشرط ألا يتطوّر إلى صراع عسكري مسلّح. يجب أن يقتصر السلاح اليوم على سلاح الحجة والمنطق والحوار، ومهما كانت كلفة هذا ومهما كانت عتبة الألم فيه عالية، إلا أنه سيبقى أقل كلفة من رصاصة واحدة تطلقها فوهة بندقية تكون بداية لصراع دموي لا يمكن التنبؤ إلى متى سيستمر أو هل ستكون له نهاية.
الأمر كله اليوم متوقّف على وعي أصحاب المظلوميات الحقيقيين، والحذر من الشخصيات صاحبة الطموحات السياسية، وعدم الوقوع في فخ استغلالها، فالقيادات لديها دائماً الخطة (ب)، وهي تستطيع أن تنجو بنفسها حينما يحتدّ الصراع وحينما يطالها الخطر، وتترك من ورّطتهم في الجحيم الذي تسبّبت فيه. وخير مثال على ذلك، وأقرب مثال زمنياً، هو ما فعله الأسد الهارب الذي ورّط الكثير من أتباعه، ولكنه هرب في اللحظة التي اقترب الخطر فيها منه.
هي فرصة أخرى للسوريين بعد إغلاق ملف قانون قيصر، وهي فرصة نادرة وربما لن تتكرر.
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه
اقرأ أيضاً


