في سياق المعاناة الممتدة التي أفرزتها سنوات الحرب في سوريا، ومع تعثُّر إطلاق مسار متكامل لإعادة الإعمار، انطلقت حملات التبرع الأهلية والمجتمعية في عدد من المحافظات السورية تحت تسميات تستحضر الانتماء المحلي والهوية المكانية، مثل "حلب ست الكل"، و"فداء لحماة"، و"الوفاء لإدلب".
إذ تعدُّ هذه الحملات تعبيراً بنيوياً عن حيوية المجتمع وقدرته على المبادرة، وسعياً للمشاركة في إعادة بناء الحاضر وصياغة ملامح المستقبل. فهي تكشف عن أبعاد تتجاوز الإطار الاقتصادي المباشر، وتنطوي على دلالات اجتماعية عميقة تتصل بإعادة إنتاج التضامن المجتمعي، وترميم شبكات الثقة، وتعزيز الإحساس بالمسؤولية الجماعية. كما تعكس، من زاوية أخرى تحوُّلاً في أنماط العلاقة بين المواطن ومؤسسات الحكم، إذ أصبح الفرد، من خلالها، فاعلاً مشاركاً في سدِّ الفجوات التنموية والمساهمة في إدارة الشأن العام، ولو على نحو غير مباشر. لذلك يمكن اعتبار حملات التبرع المجتمعية في سوريا ظاهرة مركَّبة تحمل في طياتها مؤشرات على تحولات اجتماعية واقتصادية تعيد تعريف مفهوم المواطنة الفاعلة في مرحلة بناء سوريا الجديدة.
تكتسب حملات التبرع طابعاً إسعافياً، إذ تسهم هذه المبادرات في تعويض النقص الناتج عن تراجع أداء الخدمات العامة، من خلال توفير مصادر تمويل سريعة لمشروعات خدمية ملحَّة لا تحتمل التأجيل.
لا تقتصر دلالات هذه الحملات على إبراز الإمكانات الاقتصادية الكامنة لدى السوريين في الداخل والخارج، سواء من رجال الأعمال أو من عموم المواطنين، بل تكشف في الوقت ذاته عن عمق الارتباط الوجداني بالمدن والمناطق التي طالها الدمار، فقد عكست المشاركة الواسعة مستوىً لافتاً من التعبئة المجتمعية غير المسبوقة. وفي هذا الإطار، يمكن قراءة هذه المبادرات بوصفها تعبيراً عن مفهوم ردِّ الجميل تجاه المدن التي تحمَّلت النصيب الأكبر من الخسائر والدمار خلال سنوات الحرب في سوريا. وتتجلَّى القيمة الجوهرية لهذه الحملات في قدرتها على تعزيز منظومات التكافل الاجتماعي، فقد أسهمت هذه المبادرات في إعادة إحياء أنماط التضامن الأهلي التقليدية أو ما يمكن تسميته بـ"الفزعة" بوصفها آليات مجتمعية لمواجهة الأزمات، حيث منحت الأفراد شعوراً متنامياً بالانتماء والمسؤولية الجماعية إزاء مسار إعادة الإعمار.
يتميَّز هذا النهج التشاركي بقدرته على مواءمة التدخلات التنموية مع الاحتياجات الفعلية للسكان المحليين، بما يضمن توجيه الموارد نحو قطاعات حيوية تمسُّ الحياة اليومية، مثل ترميم المؤسسات التعليمية والمراكز الصحية، وإعادة تأهيل البنى التحتية الأساسية كشبكات المياه والكهرباء. وبذلك، تكتسب هذه الحملات بعداً تنموياً يتجاوز البعد الإغاثي الآني، ليغدو جزءاً من مسار أوسع لإعادة بناء الثقة والمجتمع معاً. علاوة على ذلك، تسهم هذه الحملات في بناء جسور من الثقة بين أفراد المجتمع أنفسهم، وبين المجتمع والسلطات المحلية أو المنظمات القائمة على التنفيذ، فعندما يرى الناس ثمرة تبرعاتهم تتحقَّق على أرض الواقع، يتعزَّز لديهم الشعور بالقدرة على الفعل والتغيير، ممَّا يسهم في شفاء الجراح النفسية والاجتماعية التي خلَّفتها الحرب.
وعلى المستوى الاقتصادي، تكتسب حملات التبرع طابعاً إسعافياً، إذ تسهم هذه المبادرات في تعويض النقص الناتج عن تراجع أداء الخدمات العامة، من خلال توفير مصادر تمويل سريعة لمشروعات خدمية ملحَّة لا تحتمل التأجيل، ما ينعكس إيجاباً على تحسين نوعية الحياة، وتخفيف الأعباء الاقتصادية عن المواطنين، وتعزيز إنتاجية رأس المال البشري على المدى المتوسط والبعيد. إلى جانب ذلك، تؤدِّي هذه الحملات دوراً محفِّزاً للنشاط الاقتصادي المحلي، عبر دعم المشروعات الصغيرة والمتناهية الصغر، فضلاً عن توفير فرص عمل مؤقَّتة تسهم في تنشيط الدورة الاقتصادية التي تشكِّل رافعة اقتصادية جزئية تسهم في تعزيز الصمود المجتمعي ودعم التعافي التدريجي.
تتجاوز حملات التبرع في سوريا كونها وسائل لجمع الموارد المالية، لتغدو ظاهرة اجتماعية واقتصادية دالَّة على تحوُّل عميق في وعي المجتمع ودوره في لحظة تاريخية مفصلية.
وعلى الرغم من المردود الإيجابي الواسع لهذه الحملات، فإنَّها تطرح إشكاليات بنيوية مهمة، فهذه المبادرات، بحكم طبيعتها الطوعية والظرفية، تمثِّل حلولاً انتقالية لا يمكن التعويل عليها في تمويل مشاريع بنية تحتية كبرى تتطلَّب تخطيطاً طويل الأمد، وموارد مالية مستقرة، وآليات تنفيذ مؤسسية، وهي مهام تندرج تقليدياً ضمن مسؤوليات الدولة المعتمدة على الضرائب والإيرادات العامة. إلى جانب ذلك، يبرز تحدٍّ يتعلَّق بـ"العدالة الجغرافية" في توزيع الموارد، حيث إنَّ التفاوت في القدرة على التعبئة المجتمعية والحشد المالي بين المحافظات قد يفضي إلى تكريس اختلالات تنموية، فالمناطق التي تمتلك شبكات اجتماعية واقتصادية أوسع، أو خبرات تنظيمية أفضل، قد تستفيد من حجم أكبر من التبرعات، في حين تبقى مناطق أخرى أقل قدرة على التنظيم أو أقل حضوراً في الفضاء العام محرومة نسبياً من هذه الموارد. ويثير هذا الواقع تساؤلات جوهرية حول آليات التنسيق والحوكمة المطلوبة لضمان توجيه الجهود المجتمعية بما يحقِّق قدراً أعلى من التوازن والإنصاف، ويحول دون تحوُّل المبادرات الأهلية، من دون قصد، إلى عامل إضافي في تعميق الفجوات التنموية بين المناطق.
في المحصلة، تتجاوز حملات التبرع في سوريا كونها وسائل لجمع الموارد المالية، لتغدو ظاهرة اجتماعية واقتصادية دالَّة على تحوُّل عميق في وعي المجتمع ودوره في لحظة تاريخية مفصلية. فهي تعبير عن صمود جماعي يحوِّل التضامن من قيمة أخلاقية إلى ممارسة عملية ذات أثر ملموس. وتكشف هذه المبادرات أنَّ إعادة الإعمار مسار إنساني ومجتمعي قبل أن يكون مشروعاً عمرانياً، يقوم على إعادة بناء الثقة وتعزيز المسؤولية المشتركة، إذ تكمن أهميتها في ما تؤسِّسه من نموذج تشاركي يعيد تعريف المواطنة باعتبارها ممارسة فاعلة، ويمنح المجتمع موقعاً مركزياً في صياغة مسارات التعافي والتنمية. فهي دليل حقيقي على أنَّ مستقبل سوريا يصاغ من داخل مجتمعها، وبإرادة أبنائها، وقدرتهم على تحويل التكافل إلى قوة بنيوية، والأمل إلى أفق قابل للتحقُّق.
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه
اقرأ أيضاً


