في خطوة غير مسبوقة على صعيد حماية التراث العالمي، أطلقت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة اليونسكو في سبتمبر 2025، خلال مؤتمر MONDIACULT 2025 في برشلونة، أول متحف افتراضي عالمي للممتلكات الثقافية المسروقة.
تُعدّ هذه المنصّة الرقمية، التي يمكن للجمهور زيارتها عبر الموقع (museum.unesco.org) مشروعاً مبتكراً، يهدف إلى إعادة الحياة للقطع الثقافية المنهوبة أو المسروقة عبر العالم، من خلال تكنولوجيا الواقع الافتراضي والنمذجة ثلاثية الأبعاد.
متحف يتجاوز الحدود المادية
تختلف هذه المبادرة عن المتاحف التقليدية، لأنها منصّة رقمية مفتوحة للجمهور في أنحاء العالم كله. وهي تتيح عبر الإنترنت، التجوّل بين قاعات رقمية مليئة بالقطع الثقافية التي فُقدت أو سُرقت من مواقعها الأصلية، مصحوبة بقصصها وسياقاتها الثقافية.
ويمكن للزائر أن يستخدم تقنيات عرض ثلاثي الأبعاد للتفاعل مع القطع، وتدويرها وفحص تفاصيلها بطريقة غير مسبوقة في المتاحف التقليدية.
صُمّم المتحف بتعاون دولي واسع، بقيادة المعماري البوركيني دييبدو فرانسيس كيري، الحائز على جائزة "بريتزكر"، ليكون فضاءً رقمياً متصلاً بعالم الواقع من حيث الشكل والوظيفة، مع تأثر واضح في التصميم برمزية الجذور والعمق الثقافي، مستلهماً من أشجار الباوباب في الثقافة الأفريقية، رمز الثبات والأصل.
محتويات المعرض ونوعية القطع
تضم المنصّة في مرحلتها الأولى قرابة 250 قطعة أثرية وثقافية، قدّمتها أكثر من 40 دولة من مختلف أرجاء العالم، مع تنوّع كبير في المناطق والتقاليد. وتشمل أوروبا وآسي وإفريقيا وأميركا اللاتينية، ودول عربية وغيرها.
من بين هذه القطع تماثيل هندوسية من الهند مثل: تمثال "ناتاراجا" الذي يصوّر الإله شيفا في رقصته الكونية. وتمثال "براهما ذي الثلاثة وجوه"، وهما معاً، يعكسان أفكاراً فلسفية عميقة في ثقافة جنوب آسيا.
إضافة إلى ذلك هناك سوار ذهبي عمره نحو ألفي عام من رومانيا، ومجموعة أخرى من النُّذُر الأفريقية، مثل أنياب الفيل من الكاميرون، والعديد من القطع الأثرية الأخرى من أميركا اللاتينية.
يحتل التراث العربي مساحة واضحة في المتحف، نظراً لما تعرّضت له دول المنطقة خلال العقود الأخيرة من حروب ونزاعات، أدّت إلى نهب واسع للمواقع الأثرية والمتاحف والأسواق التقليدية.
ومن بين الأمثلة المعروضة هناك، قلادة ذهبية من تدمر "سوريا القديمة"، وهي قطعة تاريخية من القرن الثاني الميلادي ترتبط بالحضارة الرومانية في الشرق. كما تُعرض عملة ذهبية من خزينة بنغازي في ليبيا، تعود إلى القرن الرابع قبل الميلاد، وتُعدّ شاهداً على تاريخ التبادل التجاري والثقافي في حوض المتوسط القديم.
إضافة إلى قطع حليّ ومقتنيات معدنية من مناطق عربية مختلفة، نُهبت من سياقاتها الأصلية ودخلت الأسواق غير الشرعية. كذلك هناك العديد من النماذج الرقمية لقطع أثرية من سوريا والعراق، تمثّل حضارات عريقة تعرّضت مواقعها للنهب خلال سنوات النزاع، تُعرض اليوم بوصفها دليلاً على حجم الخسارة الثقافية التي لا تُقاس بالأرقام وحدها.
وترافق هذه القطع شهادات وسرديات من المجتمعات المتضررة، توضّح ما يعنيه فقدان أثر ما لمدينة أو قرية أو شعب، وكيف يتحوّل الغياب المادي إلى جرح في الذاكرة الجماعية.
غرفة الاسترداد وإعادة القطع
من بين الميزات الفريدة للمتحف، قسم قاعة الاسترداد وإعادة القطع، حيث تُعرض أمام الجمهور قصص ناجحة في إعادة بعض القطع الأثرية المنهوبة إلى أوطانها، ما يسهم في تعليم الجمهور قيمة التعاون الدولي في حماية التراث.
ومع ذلك، تؤكد اليونسكو أن المتحف ليس بديلاً عن استعادة القطع الأصلية، بل أداة للتوعية والمساءلة الأخلاقية. فالاتجار غير المشروع بالممتلكات الثقافية لا يُعد جريمة ضد دولة بعينها، بل اعتداء على التراث الإنساني المشترك. ولهذا جاء المشروع بالتعاون مع منظمة الإنتربول، وبدعم مالي من المملكة العربية السعودية، في إطار استراتيجية دولية أوسع، تهدف إلى تنسيق الجهود بين الحكومات والمؤسسات الثقافية وأجهزة إنفاذ القانون.
يرى القيّمون على هذا المشروع في اليونسكو، أن المتحف لا يهدف إلى عرض القطع فحسب. إنما إلى إعادة الاعتبار للهوية والذاكرة الجماعية للشعوب التي فقدتها القطع. فالنهب والاتجار غير المشروع بالقطع الثقافية، يؤدي إلى فقدان أجزاء من التاريخ والهوية الثقافية للمجتمعات، ويعوق فرص دراسة هذه القطع من قبل الباحثين في سياقها الأصلي".
كما يُنظر إلى المتحف كأداة تربوية لمحاربة الجهل بالتراث الثقافي والتوعية بخطورة الاتجار غير المشروع، وهو ما يتماشى مع جهود اليونسكو في تعزيز حماية الممتلكات الثقافية منذ عقود، بما في ذلك معاهدات واتفاقيات دولية تتناول الموضوع.
متحف يأمل أن يختفي
في مفارقة لافتة، يؤكد القائمون على المشروع أن أفضل سيناريو لمستقبل هذا المتحف هو أن يتقلص أو يختفي، بعد أن تعود القطع المعروضة إلى بلدانها الأصلية. فالمتحف، في جوهره، ليس احتفالاً بالنهب، بل توثيقاً له، ووسيلة للضغط المعنوي والثقافي من أجل العدالة التراثية.
بهذا المعنى، يشكّل متحف اليونسكو الافتراضي للممتلكات الثقافية المسروقة مساحة رقمية للذاكرة، وجسراً بين التكنولوجيا والضمير الإنساني، ومحاولة لإعادة الاعتبار لما سُلب من الشعوب، ولو مؤقتاً، في انتظار عودته إلى مكانه الطبيعي: سياقه الأصلي وتاريخه الحي.
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه
اقرأ أيضاً





