ضيف ومسيرة - المغرب - جلال شرف: الجامعات التقليدية لم تعد كافية، يجب خلق بيئات تحتضن العقول

في ثالث حلقاتنا على هامش قمة وايز12 في العاصمة القطرية الدوحة، التقينا جلال شرف، الرئيس التنفيذي للرقمنة والذكاء الاصطناعي بجامعة محمد السادس متعددة التخصصات التقنية، والمدير العام للمدرسة المركزية بالدار البيضاء. حوار اتخذ من المسار الشخصي مدخلا، ومن التحولات التربوية والرقمية أفقا، ليطرح أسئلة كبرى حول التعليم، والابتكار، ودور الذكاء الاصطناعي في مستقبل التعليم والمجتمعات.
ولد جلال شرف سنة 1975، سنة فارقة في التاريخ المغربي، سنة المسيرة الخضراء، التي لم يعش تفاصيلها بحكم صغر سنه، لكنها حضرت في ذاكرة العائلة وفي السرديات الأولى التي شكّلت وعيه الوطني المبكر. يقول في هذا السياق: «تلك السنة كانت سنة فريدة في تاريخ المغرب، وكان الوالدان يرويان لنا كيف عاشها المغاربة». في مدينة القنيطرة المطلة على الساحل الأطلسي، نشأ داخل أسرة مغربية تقليدية، لعب فيها الوالدان دورا مركزيا في بناء شخصيته. الأب، المقاول العصامي كما يصفه، نقل إليه قيم الاستقامة، وربط النجاح بالنية والعمل لا بالمكاسب السريعة. والأم، التي كانت القلب النابض للأسرة، كانت حاضرة في تفاصيل تربيته اليومية بحسها الفكاهي. التعليم كطريق للاستقلال الفكري في بيت جلال شرف، كان التعليم له دور محوري وأساسي. يقول: «الاستقلال الحقيقي، كما كان يؤكد الوالد، يبدأ من الاستقلال الفكري، ولا يتحقق إلا بالمعرفة». منذ الطفولة، رافق جلال فضول معرفي دائم، أسئلة لا تنتهي عن الجسور، والبنايات، والآلات، والتكنولوجيا التي تحيط به. هذا الفضول قاده طبيعيا نحو العلوم والهندسة، باعتبارها مفاتيح لفهم العالم لا مجرد مسارات مهنية. من القنيطرة إلى باريس وأمريكا: مرحلة الانفتاح انتقل جلال شرف إلى فرنسا، حيث درس سنتين من الأقسام التحضيرية في مدينة ليل، ثم التحق بعدها بالمدرسة المركزية بباريس، في تجربة فتحت له آفاقًا فكرية واسعة. بين ليل وباريس، اكتشف عوالم جديدة، ليس فقط في الرياضيات والفيزياء والهندسة، بل في الفلسفة، والاقتصاد، والعلوم الإنسانية. لاحقًا، قادته الدراسة إلى الولايات المتحدة، حيث تابع تكوينه في جامعة كورنيل، ثم عاد لاحقًا إلى جامعة هارفارد، ويقول: «التعلم لا يتوقف عند شهادة أو مرحلة عمرية، بل هو مسار حياة كامل». خيار العودة: خدمة الوطن بدل الاغتراب رغم الفرص المتاحة في الخارج، لم يكن الاستقرار النهائي خارج المغرب مطروحا بالنسبة له. نصيحة الوالد كانت حاسمة: "بلدك أولى بعلمك". يقول إنه في تلك الفترة اختار كثيرون من زملائه التجنيس والاستقرار في أوروبا أو أمريكا، لكنه هو اختار العودة إلى المغرب، مقتنعا بأن التحديات في المغرب أكبر، لكنها أكثر معنى، وأن القيمة الحقيقية للمعرفة تظهر حين توظف لخدمة مجتمعه. من عالم الأعمال إلى التعليم والسياسات العمومية كانت العودة المهنية الأولى سنة 1999 عبر المقاولة العائلية، وهي تجربة كشفت له واقع عالم المقاولة في المغرب: صعوبات التمويل، العلاقة مع البنوك، التسيير، التفاوض، وضغوط السوق. هناك، أدرك أن ما لا تعلمه المدارس يكتسب فقط في الميدان، وأن الفشل والتعثر جزء أساسي من التعلم الحقيقي. قادته الرغبة في التغيير إلى التدريس بجامعة الأخوين سنة 2022، حيث خاض أول تجربة أكاديمية مع طلبة قريبين منه سنا، ثم بعدها إلى مؤسسة التمويل الدولية IFC، حيث اطّلع على السياسات الاقتصادية من زاوية عالمية. بعدها، شغل منصب مدير التكوين المستمر بمكتب التكوين المهني وإنعاش الشغل OFPPT، ليكتشف تعقيدات منظومة التكوين، وأهمية تبسيط المساطر، وربط التكوين بحاجيات السوق. البيانات والرقمنة كخيط ناظم للمسار رغم تنوع محطاته المهنية، يرى جلال شرف أن خيطا واحدا ظل يجمع بينها، ويقول: "اكتشفت أن أغلب المشاكل التي نواجهها يمكن فهمها وحلها إذا أحسنا قراءة البيانات، سواء كنا نتحدث عن الصناعة، أو الفلاحة، أو التعليمù. هذا الوعي قاده لاحقًا إلى مناصب قيادية في الابتكار والتحول الرقمي، من بينها تجربته في المكتب الشريف للفوسفاط OCP، حيث شارك في مشاريع كبرى ركزت على التحول، والابتكار، وبناء منظومات مرنة. منذ سنة 2024، يشغل جلال شرف منصب الرئيس التنفيذي للرقمنة والذكاء الاصطناعي بجامعة محمد السادس متعددة التخصصات التقنية. هنا، يصبح السؤال الجوهري بالنسبة له: ما معنى التعليم في زمن الذكاء الاصطناعي؟ بالنسبة له، لم يعد الهدف هو الجامعة كمؤسسة، بل الأثر الذي تتركه في وعي الطالب. في عالم يستطيع فيه الشاب التعلم عبر يوتيوب والمنصات الرقمية، يقول في هذا السياق: "اليوم، الطالب يمكنه أن يتعلم أي شيء عبر الإنترنت، لذلك لم يعد دور الجامعة هو نقل المعرفة فقط، بل بناء التفكير النقدي، والقدرة على طرح الأسئلة الصحيحة". هنا يصبح التحدي هو إعادة تصميم طرق التدريس، وتحويل الأستاذ من ناقل معرفة إلى موجّه للتفكير. الذكاء الاصطناعي: من الحفظ إلى طرح الأسئلة يرى جلال شرف أن الخطر الحقيقي ليس في استعمال الذكاء الاصطناعي، بل في رفضه. يصرّح: «المشكل ليس في أن يستعمل الطالب الذكاء الاصطناعي، بل في أن نطالبه بالحفظ فقط، في عالم أصبحت فيه كل المعرفة في جيبه». الامتحانات المغلقة، والحفظ، ونبذ الأدوات الجديدة، كلها ممارسات تنتمي إلى زمن سابق. والمستقبل، كما يراه، يقوم على تعليم الطلبة كيف يطرحون الأسئلة الصحيحة، وكيف يتحققون من المعطيات، وكيف يبنون تفكيرًا نقديًا. بالنسبة له، الذكاء الاصطناعي في هذا السياق ليس عدوًا، بل أداة، مثل الآلة الحاسبة في زمن سابق. التحيز الرقمي وتمكين العقول: رهانات المستقبل لا يغفل جلال شرف المخاطر المرتبطة بالذكاء الاصطناعي، وعلى رأسها التحيز، والفجوة الرقمية، وضعف تمثيل إفريقيا والعالم العربي في البيانات العالمية. بالنسبة له، الذكاء الاصطناعي مرآة للمجتمع، وإذا كانت البيانات ناقصة أو منحازة، فالنتائج ستكون كذلك. من هنا، يدعو إلى بناء حلول محلية، وتطوير نماذج تستجيب لسياقاتنا، بدل استيراد حلول جاهزة. كما يختصر رؤيته في عبارة واحدة: «تمكين العقول». ليس تمكينًا تقنيًا فقط، بل تمكينًا فكريًا، ونفسيًا، ومؤسساتيًا، عبر خلق بيئات تحتضن العقول، وتشجع على التجريب، وتسمح بالفشل قبل النجاح. في هذا الرهان، يرى أن المغرب، رغم التحديات، يملك فرصة حقيقية، إذا أحسن استثمار طاقاته الشابة، وربط التعليم بالابتكار، والمعرفة بالفعل.
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه




