من العشوائية إلى التوثيق.. معجم الدوحة يعيد كتابة سيرة الكلمة العربية

أكثر من 300 ألف مدخل معجمي.
نحو 10 آلاف جذر لغوي، ومدونة نصية تتجاوز مليار كلمة.
ببليوغرافيا تضم أكثر من 10 آلاف مصدر.
يمكن وصف إعلان اكتمال معجم الدوحة التاريخي للغة العربية، بأنه لحظة مفصلية أعادت وضع اللغة العربية في قلب مشروع معرفي عربي معاصر، يُراكم على الماضي ليخاطب الحاضر ويستشرف المستقبل.
فالمعجم الذي وُلد من رحم البحث العلمي الصبور، خرج أخيراً إلى العلن بوصفه سجلاً حياً لمسار الألفاظ العربية وتحولاتها عبر قرون طويلة.
في الدوحة، يوم الاثنين (22 ديسمبر الجاري) وبرعاية وحضور أمير دولة قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، كُشف الستار عن النسخة النهائية من المعجم، بعد أكثر من عقد من العمل البحثي المتواصل، شارك فيه مئات الباحثين والخبراء.
لحظة الاحتفاء لم تكن احتفالاً بالاكتمال بقدر ما كانت إعلاناً عن دخول العربية عصر التوثيق التاريخي المنهجي، وفق المعايير العالمية للمعاجم التاريخية.
وتثميناً لدورهم الكبير والفاعل وتقديراً لجهودهم العلمية وعطائهم المعرفي، كرّم أمير قطر الباحثين والخبراء والمحررين الذين أسهموا في إنجاز المشروع.
خلال الفعالية، عُرض فيلم تعريفي بالبوابة الرقمية الجديدة، التي تتيح مادة معجمية تاريخية واسعة، وتعكس الدور المتنامي للمعجم في تعزيز الحضور الرقمي للغة العربية، وتوسيع دوائر الاستفادة منها عبر أدوات البحث الحديثة.
يعود إطلاق المشروع إلى عام 2013، بعد أن بدأت فكرته تتبلور في الدوحة عام 2011، عقب المؤتمر السنوي الأول للعلوم الإنسانية والاجتماعية الذي ينظمه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.
آنذاك، اقترح عدد من الأساتذة والمعجميين تبنّي مشروع يؤرخ لألفاظ العربية، وهي فكرة لقيت دعماً رسمياً، وتُرجمت لاحقاً إلى واحدة من أضخم المبادرات اللغوية عربياً وعالمياً.
وباتت بوابة المعجم تضم، بعد اكتماله، رصيداً لغوياً غير مسبوق، يشمل أكثر من 300 ألف مدخل معجمي، ونحو 10 آلاف جذر لغوي، ومدونة نصية تتجاوز مليار كلمة، إلى جانب ببليوغرافيا تضم أكثر من 10 آلاف مصدر.
هذه الأرقام لا تعكس ضخامة المشروع فحسب، بل تشير إلى اتساع تغطيته الزمنية والمعرفية، من أقدم النقوش العربية الموثقة إلى نصوص العصر الحديث.
اعترافاً بأهمية المشروع أعرب أمير قطر في منشور على منصة "إكس" عن فخره باكتمال المعجم، موجهاً الشكر لكل من ساهم في إنجازه.
وأكد أن المعجم "يعزز بمادته الثرية تمسك شعوبنا بهويتها وانفتاحها على العصر ووسائله الحديثة بكل ثقة"، عاداً اكتمال المشروع ومراحل إنجازه "مظهراً من مظاهر التكامل العربي المثمر".
نفتخر في قطر باكتمال "معجم الدوحة التاريخي للغة العربية"، الذي يعزز بمادته الثرية تمسك شعوبنا بهويتها وانفتاحها على العصر ووسائله الحديثة بكل ثقة. وهذه مناسبة لشكر كل من ساهم في هذا المنجز الحضاري التاريخي الذي نعتبر اكتماله ومراحل إنجازه مظهرا من مظاهر التكامل العربي المثمر. pic.twitter.com/y2kYsAnYZM
— تميم بن حمد (@TamimBinHamad) December 22, 2025
حافظ للهوية اللغوية
في كلمته خلال الحفل، قال المدير التنفيذي لمعجم الدوحة التاريخي، الدكتور عز الدين البوشيخي، إن المعجم يرصد الكلمات العربية في سياقاتها الزمنية والنصية، ويوثق تاريخ تداولها في النقوش والنصوص.
وبذلك، يوضح البوشيخي أن المعجم يحفظ للمتكلم العربي هويته اللغوية، ويسهم في بناء ذاكرة لغوية مشتركة بين الناطقين بالعربية.
البوشيخي لفت إلى أن المشروع تجاوز كونه معجماً تقليدياً، ليصبح أرشيفاً حياً لتحولات المعنى والاستعمال عبر نحو عشرين قرناً.
وأضاف أن القائمين على المشروع لم يتوقعوا، عند انطلاقه، أن يقودهم العمل إلى بناء مدونة نصية رقمية مهيكلة ومؤرخة تضم قرابة مليار كلمة.
وأشار إلى أن هذه المدونة تشكل اليوم مورداً معرفياً فريداً، يمكن توظيفه في البحث العلمي وتطوير نماذج لغوية عربية متقدمة في مجال الذكاء الاصطناعي.
راصد لتطور الألفاظ
وفق الموقع الرسمي للمعجم، فإنه لا يكتفي بتعريف الألفاظ، بل يوثق "ذاكرة" كل لفظ، من حيث تاريخ ظهوره، وتحولاته الدلالية والصرفية، مع الاستناد إلى شواهد نصية دقيقة.
ويؤكد القائمون عليه، انطلاقاً من التواضع العلمي، أن التواريخ المقدمة تقريبية، لكنها تظل مؤشراً علمياً على مراحل الاستعمال والتغير الدلالي، وهو جوهر المعجم التاريخي.
وفي مقال نشره المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، يرى الباحث حسين الزراعي أن معجم الدوحة التاريخي يمكّن من رصد تطور الألفاظ والمعاني في مدّ تاريخي وحضاري متصل.
ويرى الزراعي أن المعجم يسهم في ردم القطيعة المعرفية بين الماضي والحاضر، ويفتح أفقاً جديداً لإعادة قراءة النصوص وتأويلها بأدوات علمية راسخة.
أما الكاتب والروائي القطري جمال فايز، عضو مجلس إدارة الجمعية القطرية للغة العربية، فيؤكد، في حديث نقلته صحيفة "الشرق" القطرية، أن المعجم يُعد من أهم المشاريع اللغوية العربية الراهنة.
يعلل فايز ما ذهب إليه، بأن المعجم لا يشرح معنى الكلمة فقط، بل يبيّن كيف وُلد المعنى وتطوّر أو اندثر عبر العصور. ويرى أن هذه الخاصية تجعل المعجم سجلاً تاريخياً للكلمة العربية، لا مجرد قاموس تقليدي.
مهمة معرفية معقدة
ليس من جديد، عند القول إن العربية لغة حيّة متجددة، لا تختزل في قواعد جامدة، وأن التعامل معها علمٌ لا ينتهي، يزداد اتساعاً كلما تعمق الباحث فيها.
وذلك ما يؤكده عارفون بالعربية واللسانيات، ويبرز هنا ما ذهب إليه الإمام الشافعي، بتأكيده على عظمة هذه اللغة حين ذكر أن نبياً فقط من يتمكن منها، بقوله: "ولسان العرب أوسع الألسنة مذهباً، وأكثرها ألفاظاً، ولا نعلمه يحيط بجميع علمه إنسان غير نبي".
وتأتي هنا الدلالة على أن اللغة العربية شبكة واسعة من الدلالات والأساليب والوجوه البلاغية، التي تتغيّر باختلاف السياق والزمن والمتكلم.
ومن هنا، فإن الإحاطة التامة بجميع مفرداة العربية ومعانيها واستعمالاتها في كل البيئات واللهجات والعهود أمر يتجاوز طاقة البشر العاديين، مهما بلغ علمهم؛ فالعالم يدرك من العربية بقدر ما اطّلع ودرس، لكنه يظل محكوماً بحدود الزمان والمكان والمصادر التي وصلته.
وعليه يمكن قياس ما أشار إليه الكاتب والباحث عزمي بشارة، رئيس مجلس أمناء معجم الدوحة التاريخي للغة العربية، حين وصف المشروع بأنه من أعقد المهام المعرفية في تاريخ العربية.
وأوضح بشارة في مقال نشره المركز العربي للأبحاث والدراسات السياسية، أن التعقيد في المعجم ليس لضخامته وحدها، بل لطبيعته المنهجية، إذ يعتمد على النصوص الأصلية لا على المعاجم، ويتتبع تحولات المعنى في سياقاتها الحية.
وفي حفل إطلاق المعجم، لفت بشارة إلى الدور الكبير الذي أولته قطر سعياً لإخراج المعجم، مؤكداً أن قطر وفرت "أجواء من حرّية الفكر والإبداع".
وأشار إلى أن هذه الأجواء التي توفرها الدوحة، هي نفسها التي أنجحت إطلاق مشاريع أخرى علمية وثقافية ورياضية وإعلامية، مضيفاً "نتمنى أن تحتضن عواصم عربية عديدة مثل هذه المشاريع، وإن لم تدعمها، فعلى الأقل أن تقدرها".
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه
اقرأ أيضاً





