معادلة جديدة في سوريا.. موسكو وأنقرة في مواجهة العدوان الإسرائيلي

جاءت زيارة الوفد الروسي برئاسة ألكسندر نوفاك (نائب رئيس الوزراء) إلى دمشق في 9من أيلول، لتعلن بوضوح أن موسكو تعيد رسم حضورها في سوريا، حيث تعود روسيا بمفاتيح جديدة، من أبرزها ملفات الطاقة، التعاون العسكري، والوساطة الإقليمية، وفي مقدمتها العلاقة المعقدة مع تركيا وإسرائيل. وتزداد دلالة هذه الزيارة حين تُقرأ إلى جانب زيارة وزير الخارجية أسعد الشيباني إلى موسكو في آب الماضي، التي مهّدت الأرضية لتفاهمات أولية، وفتحت الباب لتنسيق على مستويات سياسية واقتصادية وأمنية متعددة.
أرضية مشتركة في مواجهة العدوان الإسرائيلي
عودة روسيا إلى دمشق جاءت متقاطعة مع مسار إقليمي أوسع، التقت فيه حسابات موسكو وأنقرة عند نقطة براغماتية جديدة. حيث يمكن أن يبرز اليوم مستوى من التنسيق يقوم على إدراك متبادل بأهمية إعادة التوازن إلى الملف السوري، وعدم ترك المجال مفتوحاً أمام الاحتلال الإسرائيلي لرسم ملامحه منفردة. هذا اللقاء في المصالح يشير إلى إمكانية بناء أرضية مشتركة أكثر صلابة تسمح للطرفين بالتحرك بفاعلية في مواجهة التحولات الراهنة، وتعزيز دورهما كلاعبين أساسيين في صياغة المرحلة السورية المقبلة.
ويكتسب هذا التلاقي بعداً أوسع حين يُقرأ في ضوء العدوان الإسرائيلي المتزايدة داخل الساحة السورية. فإسرائيل سعت خلال الأشهر الماضية إلى تكريس حضور ميداني مباشر، عبر ضربات جوية وتوغلات ميدانية وسيطرة برية ورسائل سياسية، بما يجعلها اللاعب الأكثر حرية في الحركة. غير أن عودة روسيا من بوابة التعاون مع تركيا يمكن أن تفتح مساراً مغايراً، إذ تمنح دمشق مظلة توازن تمنع الانفراد الإسرائيلي، وتعيد إدخال الملف السوري في دائرة التفاهمات الإقليمية الواسعة بدلاً من بقائه رهناً بمقاربة إسرائيلية أحادية. بهذا المعنى، يبدو الحضور الروسي–التركي كضابط إيقاع جديد، قادر على إعادة توزيع الأوراق، وإعطاء سوريا موقعاً أكثر استقراراً في لعبة الموازين المعقدة.
هذه العودة الروسية المتدرجة لا تنفصل أيضاً عن إدراك موسكو أنّ الفراغ في الجنوب السوري يُملأ إسرائيلياً بالكامل، وأن غيابها الطويل قد يحوّلها إلى لاعب ثانوي في ملف كانت تتصدره يوماً.
اللقاء الذي جمع نوفاك مع المسؤولين السوريين حمل بطبيعته دلالات تتجاوز الداخل السوري، إذ إن الملفات التي تصدّرت جدول الأعمال ــ الطاقة، البنى التحتية، التعاون العسكري والأمني ــ ترتبط بشكل مباشر بشبكة مصالح لا يمكن عزلها عن تركيا. فهذه الملفات، وإن لم يُعلن عنها كقنوات مشتركة مع أنقرة، تعكس حاجة موسكو إلى توسيع دائرة التفاهمات الإقليمية لتأمين حضورها في سوريا، وهو ما يضع تركيا في موقع الطرف الموازي الذي لا يمكن تجاوزه. ومن هنا يمكن قراءة أن التقارب الروسي–التركي في هذه المرحلة ينطلق من تقاطع حسابات ظرفي يفتح الباب أمام تفاهمات أوسع، من دون أن يُلغي ما بينهما من تنافس على أدوار ومصالح في المجال السوري.
الجنوب السوري بين موسكو وتل أبيب
خلال السنوات الماضية، شكّلت مناطق الجنوب السوري ساحة اختبار للعلاقة الروسية–الإسرائيلية. فقد حافظت موسكو منذ 2018 على آلية "منع الاشتباك" مع تل أبيب، وتولّت رعاية تسويات محلية أبعدت الميليشيات الإيرانية لمسافة ملحوظة عن الحدود. لكن مع تراجع الحضور الروسي عقب الحرب الأوكرانية، استغلّت إسرائيل الانكشاف الأمني لتوسيع عملياتها وضرب مواقع متعددة.
في المقابل، لم تُخفِ موسكو قلقها من هذا التمدد الإسرائيلي. تصريحات نوفاك في دمشق أشارت إلى أن روسيا تشارك دمشق مخاوفها من الأعمال العسكرية الإسرائيلية، وأن لديها "قدرات تفاوضية فريدة مع القيادة الإسرائيلية والمكونات السورية المختلفة" يمكن استثمارها لإحداث توازن. هنا تبرز الفرضية الجوهرية بأن روسيا قد تبحث عن شريك إقليمي آخر، هو تركيا، لإعادة ضبط الجنوب ومنع تل أبيب من الانفراد بالقرار الميداني والسياسي.
ويبدو أن موسكو لا تريد أن تظهر بموقع العاجز أمام تل أبيب، ولا تقبل أن تتحول التحركات الإسرائيلية إلى عامل يفرغ أي جهد روسي لإعادة تأهيل دورها في الملف السوري.
بالنسبة إلى أنقرة، ظلّ الملف السوري عنصراً محورياً في مقاربتها الإقليمية، سواء من زاوية الحدود أو من زاوية الارتباط بمسار التسويات السياسية. وفي المرحلة الحالية يزداد إدراكها أنّ الانفراد الإسرائيلي بالجنوب قد يجعل تل أبيب طرفاً مقرِّراً في مستقبل المعادلة السورية، بما في ذلك قضايا حساسة مثل التسويات النهائية والحدود مع الأردن ولبنان. في هذه النقطة تلتقي حسابات أنقرة مع موسكو، فكلاهما لا يرغب بترك الساحة مفتوحة أمام إسرائيل وحدها، وكلاهما يسعى إلى تعزيز موقعه التفاوضي في مواجهة واشنطن والفاعلين الدوليين.
التفاهم الروسي–التركي المحتمل لا يتجسد بالضرورة في صيغة تحالف معلن، بل يمكن أن يظهر في ترتيبات سياسية وأمنية مرنة، تسمح لموسكو بإبراز حضورها الميداني بشكل رمزي، وتمنح أنقرة مساحة أوسع تفاوضية في الملفات الإقليمية والدولية.
سوريا.. معادلة ثلاثية معقدة
على المستوى السياسي، تبدو العلاقة أشبه بمسار مزدوج؛ من جهة لا تريد موسكو صداماً مباشراً مع تل أبيب لأنها تدرك ثقلها الدولي وارتباطها الوثيق بواشنطن، ومن جهة أخرى تريد أن تبرهن لدمشق وأنقرة أنها قادرة على لعب دور الضامن الذي يضع حدوداً للتدخل الإسرائيلي. هذا التوازن غير المستقر يجعل من كل زيارة روسية إلى دمشق مناسبة لإعادة التأكيد على أن موسكو لا تزال قادرة على ضبط إيقاع اللعبة، ولو بوسائل تفاوضية غير مباشرة.
بالنسبة لإسرائيل، تغيّر المشهد السوري بعد سقوط نظام الأسد، لكنها لم تغيّر مقاربتها الأساسية؛ من حيث التعامل مع سوريا بوصفها ساحة تهديد دائم يجب ضبطه. الغارات الجوية التي واظبت عليها تل أبيب في السنوات الماضية لم تتوقف خلال العام الجاري، وإن اختلفت أهدافها وأسبابها وحيثياتها. إسرائيل لم تعد معنية بإيران في سوريا بقدر ما باتت تركّز أيضاً على منع أي محاولة سورية لإعادة بناء منظومة دفاعية قد تحد من حريتها في الحركة.
عند قراءة زيارة نوفاك إلى دمشق وما رافقها من إشارات روسية، يتضح أن موسكو تراهن على شبكة توازنات تقوم على ثلاثية مركبة؛ تفاهم تكتيكي مع تركيا يحفظ مصالحها في الداخل، تنسيق محدود مع إسرائيل يمنع التصعيد، ومحاولة إقناع دمشق بأن روسيا قادرة على أن تكون الضامن الأكثر واقعية. لكن هذه المعادلة الروسية يمكن أن تبقى هشة، فأي فتور مع أنقرة قد يُترجم إلى تعطيل لمسار اقتصادي أو أمني، وأي انزلاق في العلاقة مع إسرائيل قد يُحوّل التنسيق إلى خصومة.
بالعموم فإن زيارة الوفد الروسي الأخيرة لم تكن فقط مجرد محطة إضافية على طريق استعادة العلاقة مع دمشق، وإنما هي محاولة لإعادة صياغة دور موسكو في بيئة سورية جديدة تحكمها علاقات ثلاثية مع تركيا وإسرائيل. هذا الدور يقوم على وعود بالاستقرار والتوازن، لكنه في الوقت ذاته يسلّط الضوء على تعقيدات المعادلة القائمة: فتركيا شريك لا يزال التعامل معه محكوماً ببراغماتية متغيرة، وإسرائيل خصم حاضر لا يمكن تجاوزه، فيما تحاول القوى السورية الجديدة ترتيب موقعها وسط هذه التوازنات المتشابكة. وهكذا يبقى الملف السوري خلال الفترة الراهنة ساحة اختبار مفتوحة لإعادة تعريف موازين القوى في المنطقة، حيث لا شيء يبدو ثابتاً سوى أن روسيا تسعى لتكريس حضورها، وأن إسرائيل تواصل فرض سياستها الخاصة في الساحة السورية، وأن تركيا تتحرك لترسيخ موقعها وضمان دور فاعل في المشهد الجديد.
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه