"في المخيّلة العربيّة، لا يُعَدّ الصيف مجرّد فصلٍ مناخي، بل حالة شعوريّة يختلّ فيها الإيقاع الداخلي للإنسان. وتغدو الأغنية الصيفيّة مساحةً للهروب، والحبّ، والتخفّف، لا تأتي لتملأ الصمت، بل لتقترح معنىً آخر للوجود، متسلّلةً كذكرى أو نسمة، تُشكّل الفصلَ أكثر ممّا تُواكبه."
إعداد : علي عبدالرحمن
حين كان الصيف مرآة للنفس
في خمسينيَّاتِ وستينيَّاتِ القرنِ الماضي، لم تكن هناك حاجةٌ لمصطلحِ «أغنية صيفيَّة»، لأن الإيقاعَ العامَّ للحياة، كان يسمحُ للصوتِ بأن يُولَد دون تسمياتٍ.
فيروز، بصوتها الذي يبدو قادماً من غيمٍ دافئ، غنَّت «رجعت الصيفيَّة»، لا لتُعلن العودة، بل لتستدعي ذاكرةً، لا تزالُ تنبض. ولم يكن البحرُ مرئياً، بل كان يُشمُّ، ولم تكن الشمسُ ساطعةً، بل متأمّلةً، وكانت الأغنيةُ أقربَ إلى حالة ناعمةٍ، تُفتَحُ معها النوافذُ، ويُكسَرُ بها روتينُ الداخل.
أمَّا عبدالحليم حافظ، فكان يُشكِّل الصيفَ بوصفه مرحلةً عاطفيَّةً هشَّةً، مثلاً في «أهواك»، و«زي الهوى»، اندمجَ الحبُّ بالصيف، وكأنَّما كلُّ مشاعرِ التوقِ، والقلقِ، والانفصالِ مؤقَّتةٌ، ثم جاءت أغنيةُ «قاضي البلاج»، فجمعت بين سخريةٍ خفيفةٍ من عالمِ «المصيِّفين»، وحسٍّ رومانسي مغلَّفٍ بنكتةٍ ناعمةٍ، و«جانا الهوى» حيث البحرُ لا يعودُ مجرَّد خلفيَّةٍ، بل ويُحرِّك أيضاً عاطفةً تنفجَّر. وعبدالحليم، غنَّى الصيفَ من جهةِ القلبِ المرتبك، لا الجسدِ المتوهِّج، وحتى حين يقتربُ من البهجةِ، يطلُّ الحزنُ من النغمةِ الأخيرةِ مثل ظلٍّ، لا ينفصلُ عن الضوء.
وفي الجهةِ الشعبيَّة، كان محمد رشدي، يرسمُ صيفاً مختلفاً. «عدوية»، و«ع الرملة»، ليستا فقط أغنيتَين راقصتَين، إنهما أيضاً سرديَّاتٌ صوتيَّةٌ عن ليلِ المدينة، ولهجةِ الشارع، وحضورِ الجسدِ كما هو دون تزييفٍ، أو تجميلٍ. ورشدي، لم يطلب من صوته أن يتأنَّق، بل تركه، يتسكَّعُ في الحارات، ويقفزُ في الأنهار، ويُغني من القلبِ كما يتنفَّسُ الحي.
بينما قدَّم كارم محمود واحدةً من أقدمِ الأغنياتِ الصيفيَّةِ حضوراً في الذاكرة «على شط بحر الهوى». هي أغنيةٌ، لا تُغنِّي البحرَ بوصفه مكاناً للعطلة، بل كأفقٍ للحلم، ومشهدٍ مفتوحٍ على احتمالاتِ البهجةِ والذوبان. كانت الأغنيةُ دعوةً للتماهي مع الطبيعة، والانغماسِ فيما هو أبعدُ من سطحِ اللحظة.
هكذا، في هذه المرحلة، لم تكن الأغنيةُ الصيفيَّةُ صنفاً موسيقياً، وإنما مزاجٌ عاطفي، والصوتُ كان يُكتَبُ في انسجامٍ مع إيقاعِ المجتمع، لا في انفصاله. لم يكن هناك فصلٌ بين الفنِّ والذاكرة، وبين الشرفةِ والبحر، وكأنَّ الصوت، يربطُ الأجسادَ بالسماء.
من الهمس إلى الإيقاع
مع دخولِ التسعينيَّات، دخلت العربُ مدينةً جديدةً، لا بمعناها الجغرافي، بل الرمزي. هذه المدينةُ، تسكنها الصورةُ، وتتحكَّمُ بها العجلةُ، ويهيمنُ عليها السطح، وتُديرها الرغبةُ في أن تُرى. ولم يعد الصوتُ وحده كافياً، بل أصبح مشروطاً بقدرته على التحوُّلِ إلى مشهدٍ. هكذا جاء جيلٌ جديدٌ من المغنين، لا يقلُّ صدقاً، لكنَّه يتحدَّثُ بلغةٍ جديدةٍ متصالحةٍ مع السوق، وفي الوقتِ نفسه، لا تزالُ تمسك بخيطِ العاطفة.عمرو دياب، كان رائدَ هذا التحوُّل منذ «راجعين»، و«نور العين»، ثم «ليلي نهاري»، و«أنا عايش»، وصنعَ نموذجاً لما يمكن تسميته بـ «الأغنيةِ الصيفيَّة الحضريَّة العضويَّة» حيث خفَّةُ الإيقاع، والتجديدُ في التوزيع، والمزجُ الذكي بين الموسيقى العالميَّة وروحِ الغناءِ العربي. أغنياته، كانت تُرقص دون أن تُفرِّط في المعنى، وتلاحقُ الوقتَ دون أن تُهين اللغة. عمرو، لم يُضحِّ بالكلمة، بل جعلها ترقصُ، وأصبح صيفُه مرآةً لمدينةٍ لا تنام: مضاءةٌ، أنيقةٌ، ومشغولةٌ بالحركةِ والموضةِ والإعلان.محمد منير، من جهته، قدَّم النموذجَ المعاكس. صوتٌ، يحملُ إيقاعَ الجسد، لكنَّه لا يتخلَّى عن عمقِ الذاكرة. في «الليلة يا سمرة»، و«شبابيك»، كان الصيفُ لدى منير، لا يشبه «المصايف»، بل يشبه الجنوب، والفقرَ، والحنينَ، والكرامةَ الصامتة، وأغنيتُه أقربُ إلى مساءٍ طويلٍ على النيل، وليست كرنفالاً عابراً على الساحل. كانت إيقاعاً فطرياً لفلسفةٍ شعبيَّةٍ.
أمَّا حكيم، فقدَّم صيفاً، لا يعرفُ الخجل. في «السلام عليكم»، و«كله يرقص»، كانت الأغنيةُ احتفالاً عفوياً. صوتُ الفرقةِ الشعبيَّة، وإيقاعُ المزمار، والجسدُ الذي يرقصُ دون إذنٍ، حكيم لم يُجمِّل صوته، بل تركه يُشبه الشارع، وأصبح صيفُه حالةً شعبيَّةً مفتوحةً، لا تحتاجُ إلى مناسبةٍ، ولا تخجلُ من الفرح.
بهذه الطرق، غنَّى جيلُ التسعينيَّاتِ صيفاً مختلفاً، وسهلاً، لكنَّه مشغولٌ بالدهشة، راقصاً لكنَّه لا يخونُ عاطفته. موسيقى تعكسُ مدينةً متقلِّبةً، لا طقساً ساكناً. داخل هذه المدينة، كانت الأغنيةُ مرآةً لفرحٍ، لم يعد مؤجَّلاً، بل يُعاش في اللحظةِ، وبالصوتِ الكامل.
يمكنك أيضًا التعرف على رياض السنباطي.. الموسيقار الذي حقق نجاحاً في السينما
الألفية الثالثة: حين دخلت الكاميرا الأغنية
مع بدايةِ الألفيَّةِ الثالثة، تغيَّرت طبيعةُ الأغنيةِ الصيفيَّةِ العربيَّة تغيُّراً جذرياً، ولم تعد تجربةً سمعيَّةً خالصةً، بل تحوَّلت إلى عرضٍ بصري متكاملٍ، ولم يظهر المطربون مجرَّد أصواتٍ، بل بوصفهم صنَّاعَ مشهدٍ: نانسي عجرم، إليسا، هيفاء وهبي، جاد شويري، وغيرهم، جاؤوا بمشروعٍ غنائي، لا يكتفي بالصوت، بل ويطلبُ الكاميرا أيضاً.
تَحوَّلَتِ الأُغنِيَةُ الصَّيفيَّةُ في العالَمِ العَربيِّ إلى مُنْتَجٍ مَرْئِيٍّ تُخاطِبُ فيه الحَواسَّ كُلَّها؛ فالبَحرُ حاضِرٌ، والصُّورَةُ مِحْوَرِيَّةٌ، والإضاءةُ ساطِعَةٌ، والكَلِماتُ مَدْروسَةٌ لِتَبقى في الذَّاكِرَةِ كصُورَةٍ أَكْثَرَ مِن كونِها صَوْتًا. تُصَمَّمُ لِتُشاهَدَ أَكْثَرَ مِمَّا تُسْمَع، وتُنْتَجُ كَلَحْظَةٍ سَريعَةِ الاشْتِعالِ، لَكِنْ بِحِرْفِيَّةٍ عالِيَةٍ تُقْنِعُ المُتَلَقِّي بأَنَّ الصَّيْفَ مَوْجودٌ في كُلِّ مَكان. وَرَغْمَ تَسارُعِ الزَّمَنِ، لَمْ تَغِبِ البَصْمَةُ الفَنِّيَّةُ عَن بَعْضِ الأُغْنِيّاتِ الَّتِي لا تَزالُ تَلْمَعُ كَوَميضٍ قَصيرٍ يُضِيءُ لَحْظَةً، وإنْ لَمْ يُدْفِئ.
الخليج: الصوت الذي يحاول التوازن
فِي الخَلِيجِ، احْتَفَظَتِ الأُغْنِيَةُ الصَّيْفِيَّةُ بِهُدوئِها وَتَجَنَّبَتِ الصَّخَبَ، لَكِنْ مَعَ الحِراكِ الثَّقافِيِّ، خُصُوصًا فِي السُّعودِيَّةِ، بَدَأَتْ تَسْلُكُ مَساراتٍ أَكْثَرَ تَنَوُّعًا دُونَ أَنْ تَفْقِدَ خُصُوصِيَّتَها. قَدَّمَ راشِدُ الْماجِدِ وَعَبْدُ الْمَجِيدِ عَبْدُاللَّهِ أُغْنِيَاتٍ تُشْبِهُ نَسِيمَ اللَّيْلِ: مُقْتَصِدَةً، هادِئَةً، وَمَفْعَمَةً بِالنَّعُومَةِ. أَمَّا الجِيلُ الأَحْدَثُ، كَدالِيا مُبارَك وَفَهْدِ الْكَبِيسِي، فَجَمَعَ بَيْنَ الْمُعاصَرَةِ وَالإِنْتِماءِ فِي أُغْنِيَاتٍ خَفِيفَةٍ وَهامِسَةٍ. فِي صَيْفِ الخَلِيجِ الجَديدِ، لا تُغَنَّى الأُغْنِيَةُ لِتُبْهِرَ، بَل لِتُهَمْهِمَ بِتَماسُكٍ دَاخِلِيٍّ، وَتُجَسِّدَ غِنَاءً يُشْبِهُ الخَلِيجَ نَفْسَهُ: هادِئًا، عَميقًا، وَدَفَّاقًا كَبَحْرٍ لا يَعْلُو مَوْجُهُ، وَلا يَخْمُدُ ضِياؤُه.
صيف الضجيج والطبقة: من المهرجانات إلى التراب
مِن قَلْبِ الهَوامِشِ، ظَهَرَ صَوْتٌ جَديدٌ لا يَتَوَسَّلُ الاعْتِرافَ، بَلْ يَفْرِضُ نَفْسَهُ بِصَخَبٍ. فِي مِصْرَ، لَمْ تَكُنِ المَهْرَجاناتُ مُجَرَّدَ أُغْنِيَاتٍ راقِصَةٍ، بَلْ شَكْلًا مِن أَشْكالِ المُقاوَمَةِ الصَّوْتِيَّةِ، بِإيقاعٍ سَريعٍ وَكَلِماتٍ مُباشِرَةٍ تُعَبِّرُ عَنِ الشّارِعِ وَتَفْرِضُ إيقاعَها عَلَى اللَّحْظَةِ. وَفِي المَغْرِبِ العَرَبِيِّ، تَجَلَّى «التْرابْ» كَصَوْتٍ احْتِجاجِيٍّ فِي غِلافٍ راقِصٍ، تَداخَلَتْ فِيهِ اللهجاتُ المَحَلِّيَةُ مَعَ التَّوْزيعِ العالَمِيِّ. إِنَّهُ صَوْتُ جِيلٍ لا يُرِيدُ أَنْ يُصَنَّفَ، بَلْ أَنْ يُسْمَعَ. فِي كِلاهُما، الأُغْنِيَةُ الصَّيْفِيَّةُ لا تَسْتَجْلِبُ الضَّوْءَ، بَلْ تَصْنَعُهُ، وَتَرْقُصُ لِكَيْ لا تُنْسَى.
يمكنك متابعة الموضوع على نسخة سيدتي الديجيتال من خلال هذا الرابط
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه
اقرأ أيضاً