بين خزائن الكاش وأطنان السندات.. هل يغرق الذكاء الاصطناعي عمالقة التقنية في الديون؟

يبدو أن ديون شركات التكنولوجيا باتت عنوانًا بارزًا لمرحلة اقتصادية جديدة تعيشها كبرى شركات التقنية العالمية، في ظل تسارع غير مسبوق نحو بناء قدرات الذكاء الاصطناعي، وهو سباق مكلف دفع حتى الشركات الأكثر ثراءً بالسيولة إلى تكثيف الاقتراض والاعتماد على أسواق الدين بوتيرة قياسية.
ومع تصاعد هذا الاتجاه، تتجه الأنظار محليًا وعالميًا نحو التأثيرات الجوهرية طويلة الأمد التي قد تطال متانة الميزانيات العمومية واستدامة النمو الاقتصادي الشامل.
وتشكّل هذه التحولات اختبارًا حقيقيًا لمستقبل الاستثمار داخل قطاع يتربع على قائمة أكثر القطاعات ديناميكية وتغيرًا في العالم المعاصر.
وفي هذا السياق، تكشف البيانات الحديثة عن تحول لافت في سلوك التمويل لدى عمالقة التكنولوجيا. الذين اعتادوا تاريخيًا تمويل توسعاتهم عبر التدفقات النقدية الداخلية. إلا أن اشتداد المنافسة في مجال الذكاء الاصطناعي، إلى جانب انخفاض تكاليف الاقتراض وقوة شهية المستثمرين، أعاد رسم خريطة الأولويات المالية. وجعل ديون شركات التكنولوجيا أداة مركزية لتمويل الإنفاق الرأسمالي الضخم.
ولا يقتصر هذا التحول على منطقة جغرافية بعينها، بل يمتد ليشمل الولايات المتحدة وأوروبا وآسيا. ما يعكس طبيعة السباق العالمي على الهيمنة التكنولوجية. ومن ثم، يفرض هذا الواقع تساؤلات جوهرية حول حدود الاقتراض المقبولة. ومدى قدرة الأرباح المستقبلية على تبرير هذا التوسع في الديون.
طفرة قياسية في إصدارات السندات
وفي هذا الجانب، تشير بيانات «ديلوجيك» إلى أن شركات التكنولوجيا العالمية أصدرت سندات بقيمة 428.3 مليار دولار في عام 2025 حتى الأسبوع الأول من ديسمبر الجاري. وهو رقم يعكس ذروة تاريخية في حجم الاقتراض داخل القطاع. وتتصدر الشركات الأمريكية المشهد بإصدارات بلغت 341.8 مليار دولار. في حين سجّلت شركات التكنولوجيا الأوروبية 49.1 مليار دولار، مقابل 33 مليار دولار للشركات الآسيوية.
ويبرز هذا التوزيع الجغرافي استمرار هيمنة الولايات المتحدة على المشهد التكنولوجي العالمي بشكل واضح. غير أن المشاركة المتزايدة من جانب أوروبا وآسيا تشير بوضوح إلى أن سباق الذكاء الاصطناعي والابتكار لم يعد حكرًا على سوق واحدة بعينها. وتتحول ديون شركات التكنولوجيا، بناءً على هذه المعطيات، إلى وقود أساسي لتسريع وتيرة الاختراعات وتعزيز القدرات التنافسية عبر القارات.
ومن اللافت أن هذا التوسع في إصدارات السندات جاء في وقت لا تعاني فيه أغلب الشركات الكبرى من شح السيولة. بل على العكس، تمتلك احتياطيات نقدية ضخمة. إلا أن انخفاض تكاليف الاقتراض وقوة الطلب الاستثماري جعلا من الديون خيارًا إستراتيجيًا، وليس مجرد حل اضطراري.
الذكاء الاصطناعي محرك الاقتراض
وفي سياقٍ ذي صلة، تؤكد ميشيل كونيل؛ رئيسة شركة «بورتيا كابيتال مانجمنت»، أن تمويل الإنفاق الرأسمالي على الذكاء الاصطناعي عبر الديون يعكس تحولًا هيكليًا عميقًا في نموذج الأعمال التكنولوجي. فالتقادم السريع للتقنيات، وقِصر دورة حياة الرقائق الإلكترونية، يفرضان على الشركات إعادة الاستثمار بشكلٍ متواصل للحفاظ على موقعها في السوق.
وبالتالي، أصبحت ديون شركات التكنولوجيا وسيلة لتمويل استثمارات لا تحتمل التأجيل. خاصة في ظل احتدام المنافسة بين ما يُعرف بـ«شركات الحوسبة العملاقة». ومع أن هذا النهج يعزز القدرة على الابتكار السريع، فإنه يرفع في الوقت ذاته مستويات المخاطر المالية.
ومن هنا، يبرز التساؤل الأهم: ماذا لو لم تحقق استثمارات الذكاء الاصطناعي العوائد المتوقعة؟ هذا الاحتمال -وإن كان مستبعدًا على المدى القصير- يظل حاضرًا في حسابات المستثمرين والمحللين. خصوصًا مع تضخم أحجام الديون بوتيرة تفوق نمو الأرباح.
مؤشرات مالية تحت المجهر
يكشف تحليل أجرته وكالة «رويترز» لأكثر من 1,000 شركة تكنولوجيا تبلغ قيمتها السوقية مليار دولار على الأقل، أن متوسط نسبة الدين إلى الأرباح قبل الفوائد والضرائب والاستهلاك والإطفاء (EBITDA) ارتفع إلى 0.4% بنهاية سبتمبر. ويعد هذا المستوى قرابة ضعف ما سُجل خلال موجة الديون في عام 2020.
ورغم أن هذه النسبة لا تزال دون المستويات التي تعد عادة مثيرة للقلق. فإن الاتجاه الصاعد يشير بوضوح إلى أن ديون شركات التكنولوجيا تنمو بوتيرة أسرع من الأرباح. وهذا التباين قد يتحول إلى عامل ضغط في حال تباطؤ التدفقات النقدية أو تراجع العوائد المتوقعة من استثمارات الذكاء الاصطناعي.
وفي السياق ذاته، تراجع متوسط نسبة التدفق النقدي التشغيلي إلى إجمالي الديون إلى 12.3% في الربع الثاني. وهو أدنى مستوى خلال خمس سنوات، قبل أن يسجل تعافيًا طفيفًا لاحقًا. ويعكس هذا التراجع مؤشرات مبكرة على تضييق هوامش الأمان المالية لدى بعض الشركات.
حذر متصاعد في أسواق الائتمان
ولم تتأخر أسواق الائتمان في التقاط هذه التحولات؛ إذ شهدت فروق مقايضات العجز عن السداد (CDS) ارتفاعًا ملحوظًا لدى بعض الشركات الكبرى. فقد تضاعفت تقريبًا فروق الـCDS لأجل خمس سنوات على ديون شركة «أوراكل» لتصل إلى 142.48 نقطة أساس خلال الشهرين الماضيين.
وفي المقابل، ارتفعت فروق «مايكروسوفت» إلى نحو 35 نقطة أساس مقارنة بنحو 20.5 نقطة أساس في نهاية سبتمبر الماضي. ما يعكس تزايد حذر المستثمرين، وإن بدرجات متفاوتة بين شركة وأخرى. وهنا يظهر بوضوح أن ديون شركات التكنولوجيا أصبحت عاملًا رئيسيًا في تسعير المخاطر الائتمانية.
وفي هذا الإطار، يرى سكوت بيكلي؛ الزميل الاستشاري في «إنفو-تك ريسيرش جروب»، أن ما يحدث هو نتيجة «سوق محمومة خلقت سرديتها الخاصة التي تخدم ذاتها». حيث بات منطق «التوسع الكبير أو الخروج» مسيطرًا على قرارات الإدارة وسلوك المستثمرين.
بين القوة المالية ومخاطر الاستدامة
وعلى الرغم من هذه المؤشرات، لا تزال كبرى شركات التكنولوجيا تتمتع بربحية قوية واحتياطيات نقدية كبيرة. ويحتل عدد منها موقع الصدارة عالميًا من حيث القيمة السوقية. وهذا يمنحها هامش مناورة واسعًا في مواجهة أي تقلبات قصيرة الأجل.
إلا أن السؤال الجوهري يبقى مرتبطًا بالاستدامة: هل يمكن لهذا النموذج القائم على تصاعد ديون شركات التكنولوجيا أن يستمر دون تبعات سلبية؟ الإجابة مرهونة بقدرة استثمارات الذكاء الاصطناعي على توليد تدفقات نقدية كافية تواكب حجم الاقتراض.
وفي المحصلة، يبدو أن قطاع التكنولوجيا يقف عند مفترق طرق؛ حيث يتداخل الطموح التكنولوجي مع الحسابات المالية الدقيقة. وبينما قد يمثل الاقتراض المكثف رافعة للنمو والابتكار، فإنه في الوقت ذاته اختبار حقيقي لصلابة النماذج المالية في عالم يتغير بسرعة تفوق أي وقت مضى.
الرابط المختصر :
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه





