شهدت الشهور الأولى، بعد سقوط النظام السوري البائد، حالة ارتفاع أمل كبيرة لدى معظم السوريين، قادمة في جلها من السعادة بالتخلص من نظام متغول متوحش، تجاوزت الظروف الطبيعية للبلد وأهله، وهو الخارج من مرحلة حرب وتشتت طويلة. وفي حين كانت القُبلات تملأ أجواء دمشق بين الغائبين والعائدين، والعائدين والعائدين كذلك، كان منسوب الأمل يرتفع ارتفاعات غير مألوفة، ويتجاوز مستوى سطح بحر الواقع السوري.
وساعد على ارتفاع موجات البحر أجواء دولية وإقليمية جعلت من الترند السوري الرقم واحد في العالم، متجسدة عبر زيارات واختبارات ثقة للقيادة الجديدة للتعرف إليها، واكتشاف تلك الحركة ذات الجذور الجهادية السلفية: كيف تتصرف؟ وكيف تأكل؟ وكيف تشرب وكيف تمشي وكيف تفكر؟ بحيث ظن السوريون أن وزراء الخارجية في عدد من دول العالم ليس لديهم عمل سوى الملف السوري!
دخل عدد كبير من مسؤولي السلطة في الأشهر الأولى بنشوة الاهتمام الدولي والرغبة بسرعة الإنجاز والانتقام من مخلفات النظام السابق؛ فأطلقوا وعوداً تتعلق بالبنية التحتية، أقرب للخيال منها إلى الواقع، لأنها تتجاهل عامل الزمن في الإنجاز، إضافة إلى ظرف البلد الخارج من الحرب الذي يكاد يكون بلا بنية تحتية؛ تحقق الحدود الدنيا للمتطلبات العالمية.
مشى الجميع في الحلم، خطوات من النشوة والسعادة وأجواء تعبير غير مألوفة، حيث صارت البلد عامة ندوة مفتوحة يمكنها أن تتناول أي شيء، من دون أية حدود أو نواظم، وظن سوريون كثيرون أن إنجاز المشاريع يشبه حديثهم في السياسة: من دون أية جدران أو أثمان!
غير أن لغة الاقتصاد مختلفة، فهي تفهم في الأرقام والخطط وتوريد الأجهزة والمتطلبات، صحيح أنها تعتمد على دراسات الجدوى إلا أن المنجز يحتاج إلى لوجستيات لا تكفي النوايا الحسنة أو إرادة الإنجاز لتجاوزها، فالمشاريع لها متطلبات يأخذ تأمينها وقتاً حتى تصبح واقعاً، في بلد ينام ويستيقظ على وقع عقوبات يعود بعضها إلى نصف قرن!
ومما ساعد على تكبير الأحلام أن الشخصية السورية شخصية مطاطة تعمل في التجارة وتهوى المغامرة والعجلة والنق لذلك يلائمها مثل هذا الحلم الواسع غير القارئ للظروف الموضوعية!
وفي حين كان حجم الأحلام يكبر يوماً تلو يوم عند المواطن السوري والمستثمر أحياناً جاءت الأحداث في الساحل ثم السويداء لتشكل عامل استيقاظ من حلم جميل، حيث كشفت هشاشة الوضع الأمني في عدد من المدن السورية وكذلك نبهت إلى أن هناك قوة عسكرية تتمثل في إسرائيل يمكنها ان تكون عاملاً معيقاً للأحلام والوقائع، وبدا انه من الضروري أن يكون للأحلام حراس يتفهمون الحاجات الأمنية للبلاد والعباد!
وهكذا بدلاً من الاكتفاء بسرعة المشي إلى الأمام صار مطلوباً من السوريين أن يتعلموا المشي إلى الخلف كذلك من دون أن يتعثروا أو يقعوا، وأحياناً عليهم أن يمشوا كذلك إلى اليمين وإلى الشمال إضافة إلى المشي الدائري والمراوحة في المكان، وكذلك تعلم كيفية المراوحة بأقل كم ممكن من الجهد والخسائر. وفي كل تلك الأنواع من المشي كان مطلوباً من السوريين أن يُبْقوا منسوب الأمل مرتفعاً كي لا تتكسر الأحلام أو يذهبوا نحو دوائر نفسية أخرى لها علاقة باليأس أو الانكسار، وهو ما يحدث غالباً حين يتم رفع منسوب التوقع، وليس من السهولة الحد من سقف التوقعات السورية وهم الذين حرموا من أي توقع إيجابي سنوات طويلة طويلة!
وجد اليائسون السوريون والسوداويون والعدميون والكارهون للسلطة، وهم نسبة قد تصل إلى 10 في المئة في انكسار سقف التوقعات الكبيرة فرصة للشماتة بأولئك المتفائلين وسموهم شبيحة النظام الجديد أو مطبليه أو الذين يعيشون خارج الواقع، وباتوا يبشرون بسقوط النظام الوشيك ويعطون مواعيد لسقوط أكيد قريب!
وبات اليوم لدينا في سوريا معركة جديدة يمكن تسميتها معركة الأمل، قد تكون مستمدة مرات من أمل حياتي لأم كلثوم وصولاً إلى "علّيْ صوتك بالغنا"، في حين يصرخ كثيرون مبشرون برحيل وشيك للنظام السياسي، استجابة لأيديولوجيتهم ويقينهم ورغبويتهم وكي يستمروا في الحياة التي تقوم على اليأس!
العين الموضوعية تكشف نقصاً في السيولة في السوق السورية، وتعرجات في الحلول السياسية وضعف في الخدمات وغياب مؤشرات التعافي السريع، غير أن المتشبثين بالأمل والسعيدين بسقوط النظام لديهم صبر جِمال لم يقتاتوا منه شيئاً بعد، وفرحتهم بسقوط النظام البائد تجعلهم يغذون هذا الصبر بتذكر لحظات السقوط ورؤية الأحبة وزيارة الأوطان؛ التي كانت مستحيلة وغدت ممكنة!
لو حاولنا الموازنة بين المتمسكين بالأمل والداعين إلى اليأس والعدمية لوجدنا أن النوع الثاني ليس لديهم مشروع أو أسباب، وجوهر فقدان الأمل لديهم يقوم على تكسير الأمل والاتهام، بل يغمضون عيونهم عن كل ذلك الاهتمام بالوضع السوري وحرص العالم في هذه اللحظة على الحلول لأنه لا يريد بؤر توتر جديدة أو لاجئين جدداً، بل إنه يريد أن يعيد من وصلوا إلى أرضه!
لم يكن منسوب الأمل السوري يوماً ذو منبع ومصب سوري فحسب، لأن سوريا بتكوينها الديمغرافي والجغرافي مصب لمصالح دولية وإقليمية، وبالتالي تؤثر تلك المصالح اليوم في معركة الأمل السورية وتؤدي إلى تذبذبها مرات عدة، وأحياناً يكون مما يريح تلك الدول أن يرتفع منسوب الأمل لدى السوريين وهو ما يبدو أنه حاضر بقوة اليوم!
معركة الأمل في سوريا اليوم فيها جانب أخلاقي وسياسي واقتصادي، وتؤثر فيها عوامل داخلية وخارجية غير أنها في كل أحوالها معركة لامجال للخسارة فيها، كي تستمر الحياة، وإن كان مطلوباً السيطرة على مناسيب الأمل كي لا يصبح وهماً وعيشاً خارج الواقع، ولعل قراءة الظروف الموضوعية للبلد وتفهم مراحل ما بعد النزاع والصراعات الأهلية يقود إلى تفهم حالات تذبذب الأمل السوري!
لا تبنى البلدان ولا تحدث التطورات ولا يمكن للحياة أن تستمر من دون فتح شبابيك الأمل، فاليأس عدمٌ وخسارة وهدم، والأمر أبعد بكثير من تشجيع السلطة الحالية أو الوقوف ضدها، الأمر أقرب إلى الإيمان بالشخصية السورية وتاريخ البلد والتعويل على الولادات الجديدة رغم الظروف الصعبة جداً، التي قد توحي أن المولود السوري اليوم خديج، غير أنه خديج متمسك بالحياة وواثق بها وبنفسه مع معرفته أنه يحتاج إلى رعاية خاصة، غير أنه ليس لديه أدنى شك أنه سيعيش ويحبو ويمشي ويعتمد على نفسه كلياً قبل أن يصل إلى الثامنة عشرة، رغم معرفته بصعوبة المراحل الانتقالية وعثراتها!
منسوب الأمل تتحكم فيه عوامل عدة منها موقعك ورأيك ورؤيتك وأحياناً تحَقّق مصالحك أو عدمه، ولا ننسى أنه لدينا منسوب عام للأمل عام وخاص، وهو في كل الحالات ليس الرائز الوحيد للوضع في سوريا، حيث إنه يتكئ على حالة شعورية وحسية قد لا تشكل شيئاً للأرقام أو صاحب القرار!
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه
اقرأ أيضاً